تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٩
لحصول انقطاع الدم، لأنه لا يشرع إلا بعده.
وإذا قلنا: لا بد من الغسل كغسل الجنابة، فاختلف في الذمية: هل تجبر على الغسل من الحيض؟ فمن رأى أن الغسل عبادة قال لا يلزمها لأن نية العبادة لا تصح من الكافر، ومن لم ير ذلك عبادة، بل الاغتسال من حق الزوج لإحلالها للوطء، قال: تجبر على الغسل.
ومن أوجب الغسل فصفته ما روي في الصحيح عن أسماء بنت عميس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن غسل الحيضة فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، وتتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب الماء على رأسها وتضغطه حتى يبلغ أصول شعرها، ثم تفيض الماء على سائر بدنها).
* (فئاتوهن) * هذا أمر يراد به الإباحة، كقوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا) * وكثيرا ما يعقب أمر الإباحة التحريم، وهو كناية عن الجماع.
* (من حيث أمركم الله) * حيث: ظرف مكان، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى، وهو القبل لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض، قاله ابن عباس، والربيع. أو من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك، وأبو رزين والسدي.
وروي عن ابن عباس: ويصير المعنى فأتوهن في الطهر لا في الحيض أو من قبل النكاح لا من قبل الفجور، قاله محمد بن الحنيفة، أو: من حيث أحل لكم غشيانهن بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات، قاله الأصم. والأول أظهر، لأن حمل: حيث، على المكان والموضع هو الحقيقة، وما سواه مجاز.
وإذا حمل على الأظهر كان في ذلك رد على من أباح إتيان النساء في أدبارهن. قيل: وقد انعقد الإجماع على تحريم ذلك، وما روي من إباحة ذلك عن أحد من العلماء فهو مختلف غير صحيح، والمعنى، في أمركم الله باعتزالهن وهو الفرج، أو من السرة إلى الركبتين.
* (إن الله يحب التوبين) * أي: الراجعين إلى الخير. وجاء عقب الأمر والنهي إيذانا بقبول توبة من يقع منه خلاف ما شرع له، وهو عام في التوابين من الذنوب.
* (ويحب المتطهرين) * أي: المبرئين من الفواحش، وخصه بعضهم بأنه التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب، قاله ابن جبير؛ أو بالعكس، قاله عطاء، ومقاتل؛ وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض، وقال مجاهد: من إتيان النساء في أدبارهن في أيام حيضهن؛ وقال أبو العالية: التوابين من الكفر المتطهرين بالإيمان. وقال القتاد: التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر، وقيل: التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب. وقال عطاء أيضا: المتطهرين بالماء، وقيل: من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة، كأن هذا القول نظير لقوله تعالى، حكاية عن قوم لوط: * (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) *.
والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية * (يسألونك عن * المحيض) * ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض، من مجامعتهن في الحيض في الفرج، أو في الدبر، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر، ثم أباح الإتيان في بالفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج، وإن كان ليس مأمورا به في لفظ الآية، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء، وأبرز ذلك في صورتين عامتين، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك، فقال تعالى: * (إن الله يحب التوبين) * أي: الراجعين إلى ما شرع * (ويحب المتطهرين) * بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات. وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد.
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن السبب الذي أثنى الله به عليهم،
(١٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 ... » »»