تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٨٣
بحسن العاقبة في الآخرة، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان. وفي أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار الله تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الخمر والميسر، فوقع ما أخبر به تعالى، وأمر نبيه أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير، فكان هذا الإخبار مدعاة لتركهما، ودل ذلك على تحريمهما، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة، وبالكثرة في قراءة، وقد قال تعالى في المحرمات: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم) * * (إن تجتنبوا كبائر ما * إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) * فحيث وصف الإثم بالكبير، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم، وأخبر أيضا أن فيهما منافع للناس، من: أخذ الأموال بالتجارة في الخمر، وبالقمر في الميسر، وغير ذلك، لأنه ما من شيء حرم إلا فيه منفعة بوجه ما، خصوصا ما كان الطبع مائلا إليه، أو كان الشخص ناشئا عليه بالطبع. ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي هو جالب إلى النار، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته، ليرشد العاقل إلى تجنب ما عذابه دائم ونفعه زائل.
ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل عليهم إنفاقه، ويشير * (ما جعل * عليكم فى الدين من حرج) * ثم ذكر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بيانا مثل ما بين في أمر الخمر، والميسر، وما ينفقون. ثم ذكر أنه بهذا البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة، فإذا فكر فيهما يرجح بالفكر إيثار الآخرة على الدنيا.
ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى، وما كلفوا في شأنهم، إذ كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم، ولصغرهم ونقص عقولهم، فأجيبوا بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية ماله: (أمتي كالبنيان يشد بعضه بعضا).
ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام، فالإخوة موجبة للنظر في حال الأخ. وأبرز الطلب في صورة شرطية، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة، وهو كونهم إخوانكم.
ولما أمر بالإصلاح لليتامى، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح، ليحذر من الفساد ويدعو إلى الصلاح، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد، و: من أصلح، بما يناسب فعله، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم، فدل على أن التكاليف السابقة من تحريم الخمر والميسر، وتكليف الصدقة، بأن تكون عفوا، وتكليف إصلاح اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات.
ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها.
ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به، وهو شرب الخمر والأكل به، والقمر بالميسر والأكل به، ولما كان النكاح أيضا من أعظم الشهوات والملاذ، استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان، وهو الإشراك الموجب للتنافر والتباعد. والنكاح موجب للخلطة والمودة قال تعالى: * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) * لا يتراءى داراهما فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان، وغيا ذلك بحصول الإيمان، ثم ذكر من كان رقيقا وهو مؤمن، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن أو مال أو رئاسة؛ ونبه على العلة الموجبة للترك، وهو أن من أشرك داع إلى النار، وجر ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف من كل معاشرة أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان وحديثه، فمنعوا من ذلك سدا للتطرق إلى النار.
ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم ما حرم وإباحة ما أباح، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس، وذلك لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات.
ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات، وغيا ذلك بالطهر ما قبله بالإيمان، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهن من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولا بالحيض، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»