تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٨١
عن الوطىء، وجاء: حرث لكم، نكرة لأنه الأصل في الخبر، ولأنه كان المجهول، فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعا، وجاء: فأتوا حرثكم، معرفة لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق، واختصاصا بما أضيف إليه، ونظير ذلك أن تقول: زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك.
وإذا تقدمت نكرة، وأعدت اللفظ، فلا بد أن يكون معرفة: إما بالألف واللام، كقوله: * (فعصى فرعون الرسول) * وإما بالإضافة كهذا.
وأنى: بمعنى: كيف بالنسبة إلى العزل، وترك العزل، قاله ابن المسيب، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة، قاله عكرمة، والربيع، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة. في أي حال شاءها، الواطىء مقبلة ومدبرة، على أي شق، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال، وذلك في مكان الحرث، أو: بمعنى متى؟ قاله الضحاك، فيكون إذ ذاك ظرف زمان. ويكون المعنى: قأتوا حرثكم في أي زمان أردتم.
وقال جماعة من المفسرين: أنى، بمعنى أي، والمعنى على أي صفة شئتم، فيكون على هذا تخييرا في الخلال والهيئة، أي: أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة، وقد وقع هذا مفسرا في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (ذلك لا يبالي به بعد أن يكون في صمام واحد). والصمام رأس القارورة، ثم استعير. وقالت فرقة: أنى، بمعنى: أين؟ فجعلها مكانا، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة في دبرها، وممن روي عنه إباحة ذلك: محمد بن المنكدر، وابن أبي ملكية، وعبد الله بن عمر، من الصحابة، ومالك، ووقع ذلك في العبية. وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعل بذلك وإنكاره، وروي عن مالك إنكار ذلك، وسئل فقيل: يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في ادبارهن؟ فقال: معاذ الله، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: * (نساؤكم حرث لكم) * وأنى يكون الحرث إلا في موضع البذر؟ ونقل مثل هذا عن الشافعي، وأبي حنيفة، ونقل جواز ذلك عن: نافع، وجعفر الصادق، وهو اختيار المرتضي من أئمة الشيعة، وذكر في (المنتخب) ما استدل به لهذا المذهب وما ورد به، فيطالع هناك، إذ كتابنا هذا ليس موضوعا لذكر دلائل الفقه إلا بمقدار ما يتعلق بالآية.
وقد روى تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اثنا عشر صحابيا بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم، ذكرها أحمد في (مسنده) وأو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه (تحريم المحل المكروه).
قال ابن عطية: ولا ينبعغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم، وقال أيضا: أنى شئتم، معناه عند جمهور العلماء من: صحابة، وتابعين، وأئمة: من أي وجه شئتم، معناه: مقبلة ومدبرة على جنب، وأنى: إنما يجيء سؤالا وإخبارطا على أمر له جهات، فهي أعخم في اللغة من: كيف، ومن: أين، ومن: متى. هذا هو الاستعمال العربي.
وقد فسر الناس أنى في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبوية بكيف، ومن أين باجتماعهما؟ وقال النحويون: أنى، لتعميم الأحوال، وقد تأتي: أنى، بمعنى: متى، وبمعنى: أين، وتكون استفاما وشرطا، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط.
وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للأحوال، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان، فتكون بمعنى: أين قال الزمخشري وقوله: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها، من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوههن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا، وهو موضع الحرث.
* (هو أذى فاعتزلوا النساء) * * (من حيث أمركم الله) * * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * من الكنايات اللطيفة، والتعرضات المستحسنة، فهذه وأشباهها في كلام الله تعالى آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه. وهو حسن.
(١٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 ... » »»