تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٨٢
قالوا والعامل في أنى فأتوا، وهذا الذي قالوه لا يصح، لأناقد ذكرنا أنها تكون استفهاما أو شرطا، لا جائز أن تكون هنا شرطا، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان، فيكون ذلك مبيحا لإتيان النساء في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله، لأنه معمول لفعل الشرط، كما أن فعل الشرط معمول له، ولا جائز أن يكون استفاما، لأنها إذا كانت استفهاما اكتفت بما بعدها من فعل كقوله * (أنى يكون لى ولد) * ومن اسم كقوله: * (أنى لك هاذا) * ولا ييفتقر إلى غير ذلك، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها.
وعلى تقدير أن يكون استفهاما لا يعمل فيها ما قبلها، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها، فتبين على وجهي: أنى، أنها لا تكون معمولة لما قبلها، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر.
والذي يظهر، والله أعلم، أنها تكون شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيها للحال بالظرف المكاني، وقد جاء نظير ذلك في لفظ: كيف، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون أكون، وقال تعالى: * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * فلا يجوز أن تكون هنا استفهاما، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف، ويدل عليه ما قبله، تقديره: أنى شئتم فأتوه، وكيف يشاء ينفق، كما حذف جواب الشرط في قولك: أضرب زيدا أنى لقيته، التقدير أنى لقيته فاضربه.
فان قلت: قد أخرجت: أنى، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل: كيف، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط، فهل الفعل الماضي الذي هو: شئتم، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفا؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد: كيف، في قولهم: كيف تصنع أصنع؟.
فالجواب أنه يحتمل الأمرين، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفا صريحا، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف، وبينهما علاقة واضحة، إذ كل منهما على معنى: في، بخلاف: كيف، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها، فإنما قاله بالقياس، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها، حيث يقتضي جملة أخرى.
* (وقدموا لانفسكم) * مفعول قدموا محذوف، فقيل: التقدير ذكر الله عند القربان، أو: طلب الولد والإفراط شفعاء، قاله ابن عباس، أو: الخير، قاله السدي، أو: قدم صدق، قاله ابن كيسان، أو: الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به، قاله ابن عطية، أو: ذكر الله على الجماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم): (لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره). أو التسمية على الوطىء، حكاه الزمخشري. أو: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وهو خلاف ما نهيتكم عنه، قاله الزمخشري، وهو قول مركب من قول: من قبله.
والذي يظهر أن المعنى: وقدموا لأنفسكم طاعة الله، وامتثاله ما أمر، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله: * (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله) * ولذلك جاء بعده * (واتقوا الله) * أي: اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدم يحتاج إلى أن يقدم معك ما تقدم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو العمل الصالح.
* (واعلموا أنكم ملاقوه) * الظاهر أن الضمير المجرور في: ملاقوه، عائد على الله تعالى، وتكون على حذف مضاف، أي: ملاقو جزائه على أفعالكم، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله: وقدموا، أي: واعلموا أنكم ملاقو ما قدمتم من الخير والطاعة، وهو على حذف مضاف أيضا، أي: ملاقو جزائه، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدموا، أو على الجزاء.
* (وبشر المؤمنين) * أي:
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»