وعلته: إن حلفت بالله بررت، لم يصح وذلك كما تقول: لا تضرب زيدا لئلا يؤذك، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب، والمعنى: إن لم تضربه لم يؤذيك، وإن ضربته أذاك، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر، ولا على وجوده، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير: إرادة أن تبروا، لأنه لا يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر، ويتعلق منه الشرط والجزاء، تقول: إن حلفت لم تبر، وإن لم تحلف بررت.
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال: إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي، أي: إرادة أن تبروا، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين، فإن قلت: كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى واللإصلاح بين الناس؟ قلنا: لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا، إن هذا من أعظم أبواب البر.
وأما معنى التقوى فظاهر، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظما لله تعالى إلى هذا الحد، محترزا عن الإخلال بواجب حقه، اعتقدوا فيه كونه معظما لله، وكونه صادقا بعيدا من الأغراض الفاسدة، فيتقبلون قوله، فيحصل الصلح يتوسطه إنتهى هذا الكلام.
وفي (المنتخب) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال: ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة، بمعنى معرضا للأمر، قال: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل فيه: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * بأشنع المذام، وجعل الحلاف مقدمتها، وأن تبروا، علة للنهي أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء، على الله، غير معظم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح بذات بينهم.
وقيل: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين، لتبروا المحلوف لهم، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روي هذا المعنى عن ابن عباس، فقيد المعلوم بالكذب، وقيد العلة بالناس، والإصلاح بالكذب، وهو خلاف الظاهر.
وقال الزمخشري: ويتعلق: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. إنتهى. ولا يصح هذا التقدير، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي، لأنه علق: لأيمانكم، بتجعلوا، وعلق: لأن تبروا بعرضة، فقد فصل بين: عرضة، وبين: لأن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما، لأنه معمول عنده لتجعلوا، وذلك لا يجوز، ونظير ما أجازه أن تقول: أمرر وأضرب بزيد هندا، فهذا لا يجوز ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي.
والذي يظهر لي أن تبروا، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض، والعمل فيه قوله: لأيمانكم، التقدير: لأقسامكم على أن تبروا، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى، وجعله معرضا لأقسامهم على البر و. التقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة، لما نخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساما على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به، فصار في موضع: أن تبروا، ثلاثة أقوال: الرفع على الابتداء، والخلاف في تقدير الجر، والجر على وجهين: عطف البيان، والبدل والنصب على وجهين: إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره، وإما على أن يكون معمولا: لأيمانكم، على إسقاط الخافض.
* (والله سميع عليم) * ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة