تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٤٧
عمرا دانقا، على الاستثناء، لم يجز، أو على البدل جاز، فتبدل عمرا من الناس، ودانقا من درهم، كأنك قلت ما أعطيت إلا عمرا دانقا. ويعني: أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين.
قال بعض أصحابنا: ما قاله ابن السراح فيه ضعف، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلا، فأشبه المعطوف بحرف، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلا بدلان. انتهى كلامه.
وأجاز قوم أن يقع بعد إلا مستثنيان دون عطف، والصحيح أنه لا يجوز، لأن إلا هي من حيث المعنى معدية، ولولا إلا لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها، فهي: كواو مع وكالهمزة: التي جعلت للتعدية في بنية الفعل، فكما أنه لا تعدى: واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلا بحرف عطف، فكذلك إلا، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق: من بعد ما جاءهم البينات، وينتصب: بغيا، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله، وتقديره: اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغيا بينهم.
* (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) * الذين آمنوا: هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم)، والضمير: فيما اختلفوا، عائد على الذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف، ومن الحق تبيين المختلف فيه، و: من، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من: ما، فتكون للتبعيض، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك، التقدير: لما اختلفوا فيه الذي هو الحق. والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام، ويدل عليه قراءة عبد الله: لما اختلفوا فيه من الإسلام.
وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا، وفي تعيينه خلاف: أهو الجمعة؟ جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا؟ وفي الصحيحين: (نحن الأولون والآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم). فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة، فاليوم لنا وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى.
أو الصلاة؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة. قاله زيد بن أسلم.
أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام؟ قالت النصارى: كان نصرانيا، وقالت اليهود: كان يهوديا، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ) * أو عيسى؟ على نبينا وعليه السلام، جعلته اليهود لعنة، وجعلته النصارى إلها فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه، قاله ابن زيد. أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها؟ أو الصيام؟ اختلفوا فيه، فهدانا الله لشهر رمضان.
فهذه ستة أقوال غير الأول.
وقال الفراء: في الكلام قلب، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، واختاره الطبري.
قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، قال: وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله: فهدى، يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: فيه، وتبين بقوله: من الحق، جنس ما وقع الخلاف فيه.
قال المهدوي: وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف. انتهى كلام ابن عطية، وهو حسن.
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه.
وبإذنه: معناه بعلمه، قاله الزجاج أو: بأمره، وتوفيقه، أو بتمكينه، أقوال مرت مشبعا الكلام عليها، في قوله: * (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) * ويتعلق بإذنه بقوله: فهدى الله، وأبعد من أضمر له فعلا مطاوعا تقديره: فاهتدوا بإذنه، وهو قول أبي علي، إذ لا حاجة لهذا الإضمار.
* (والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) * في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه، وتكرر اسم الله في قوله: والله، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة، وذلك أولى من أن يفتقر بإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر، وقد تقدم لذلك نظائر.
وفي قوله: من يشاء، إشعار، بل دلالة، على أن هدايته تعالى منشأها الإرادة فقط، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط * (لا يسأل عما يفعل) *
(١٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 ... » »»