تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٦١
ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: * (فأولئك حبطت أعمالهم) * فتكون داخلة في الجزاء، لأن المعطوف على الجزاء جزاء، وهذا الوجه أولى، لأن القرب مرجح، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.
* (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) * سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف. وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه، حين قتلوا الحضرمي، ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت. انتهى كلامه. وهو كالأول، ألا أنه اختلف في الظان، ففي الأول ابن جحش، وفي قول الزمخشري: قوم، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة. وقيل: لما أوجب الجهاد بقوله: * (كتب عليكم القتال) * وبين أن تركه سبب للوعيد، اتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويتبعه وعد، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع، لأن الإيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشئ الواحد. وأتى خبر: أن، جملة مصدرة: بأولئك، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكريرا لموصول بالعطف مشعرا بالمغايرة في الذوات، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة، لا: إن الذين آمنوا، صنف وحده مغاير: للذين هاجروا وجاهدوا، وأتى بلفظة: يرجون، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة، إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أقبل أم لا؟ وأيضا فلأن المذكورة في الأية ثلاثة أوصاف، ولا بد مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة، فلذلك قال: فأولئك يرجون، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال تعالى: * (والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة) *.
وروي عن قتادة أنه قال: هو لأخيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء، كما يسمعون، وقيل: الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته، لا في أصل الثواب، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق، و: رحمت، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء، وهي سبعة مواضع كتبت: رحمت، فيها بالتاء. أحدها هذا، وفي الأعراف: * (إن رحمت الله قريب) * وفي هود: * (قالوا أتعجبين من) * وفي مريم * (ذكر رحمت ربك) * وفي الزخرف * (أهم يقسمون * رحمت ربك) * * (* ورحمت ربك خير مما تجمعون) * وفي الروم * (فانظر إلىءاثار * رحمت الله) * * (والله غفور رحيم) * لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة، وزاد وصفا آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران، فكأنه قيل: الله تعالى، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه، فالرحمة متحققة، لأنها من صفاته تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى، ومحذرين من عصى من عقاب الله، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها، ولأنها نتيجتها رضي الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه، وأنزل معهم كتابا من عنده مصحوبا بالحق اللائح، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع، لأن ما جاؤوا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار، وربما يذهب بذهابهم، فإذا كان ما شرع لهم مخلدا في الطروس كان أبقى، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم، وتكاليفهم، ومصالح دنياهم، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، أي: أوتوا
(١٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 ... » »»