تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٦٢
الكتاب، ووصل إليهم من عند الله، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الاختلاف عند هؤلاء سببا للاختلاف، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف، وذلك بتيسير الله تعالى لهم، ذلك من غير سابقة استحقاق، بل هدايته إياهم الحق هو بتميكنه تعالى لذلك.
ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته، ثم ذكر تعالى مخاطبا للمؤمنين، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب، فالحاصل: فسكنت نفوسهم من ذلك الإعاج بانتظار النصر القريب.
ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره، وذكر مصرف ذلك، لأنه هو الأهم في الجواب، وكأنه قيل: أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم، وهما: الوالدان: اللذان كانا سببا في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا، وفي الحنو عليك، ثم ذكر: الأقربين بصفة التفضيل، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب، والإنفاق عليهم صدقة وصلة، ثم ذكر اليتامى: وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل، ثم ذكر: المساكين، وهم الذين انتهوا، من الفقراء، إلى حالة المسكنة، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها، ثم أخبر تعالى: أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه، فيجازي عليه ويثيب.
ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له، لأن عقابه إلى خير، فالقتال، وإن كان مكروها للطبع، فإنه خير إن سلم، فخيره بالظفر بأعداء الله، وبالغنيمة، واستيلاء عليهم قتلا ونهبا وتملك دار، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء.
ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله * (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) * فمن المحبوب ترك القتال، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه، وبلغ منه مقاصده، ولقد أحسن زهير حيث قال:
* جريء متى يظلم يعاقب بظلمه * سريعا، وإن لا يبد بالظلم يظلم * ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال.
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن القتال في الشهر الحرام، لما كان وقع ذلك منهم، لا على سبيل القصد، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير، إذ كانت العادة أن الأشهر لحرم لا قتال فيها، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله، ومن الكفر بالله، وبالمسجد الحرام، ومن إخراج أهله منه.
ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه، أكبر من قتله وهو على دينه، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة.
ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل، ووافى على ذلك، فجميع ما تقدم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار، وإجراء أحكام المرتدين
(١٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 167 ... » »»