والسابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من المعارف والعمل بما فيه من الاحكام بالعناية والاهتمام.
وفي الكلام حذف وإيجاز رعاية للاختصار، والتقدير: فلما وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم والعمل، وبهذا المعنى يتأيد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي وسائر كتب الأنبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة (1).
قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة " فسر الحكم بالفهم وبالعقل وبالحكمة وبمعرفة آداب الخدمة وبالفراسة الصادقة وبالنبوة، لكن المستفاد من مثل قوله تعالى: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16، وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وغيرهما من الآيات أن الحكم غير النبوة فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغي، وكذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى على شئ من ذلك.
نعم ربما يستأنس من مثل قوله يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة: 129، وقوله: " يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " الجمعة: 2 - والحكمة بناء نوع من الحكم - أن المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقة الإلهية وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الانظار العادية ولعله إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. وعلى هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد.
وقوله: " وحنانا من لدنا " معطوف على الحكم أي وأعطيناه حنانا من لدنا والحنان: العطف والاشفاق، قال الراغب ولكون الاشفاق لا ينفك من الرحمة عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى: " وحنانا من لدنا " منه قيل: الحنان المنان وحنانيك إشفاقا بعد إشفاق.