وهذه حجه برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر وأمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الألعوبة الكاذبة التي نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ ولا ضلال، وكذا الظنون والمزاعم الواهية التي نتداولها ونركن إليها بالعلم العياني الذي هو حقيقة العلم وكذا العلم بالأمور الغائبة عنا بالظفر على أماراتها الأغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة.
والثانية أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه وهذا ضروري عند من تتبعها وأمعن النظر في حالها فالهداية الإلهية عامة للجميع كما قال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 والشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شئ من السماوات والأرض أو الانسان - ولن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الإلهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الاصلاح بما ليس شأنه إلا الافساد وإلى الهداية بما خاصته الاضلال وهو محال.
وهذا معنى قوله سبحانه: " وما كنت متخذ المضلين عضدا: " الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم.
وفي قوله: " ما أشهدتهم وقوله " وما كنت " ولم يقل: ما شهدوا وما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال: والقائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه وأنهم أرباب وآلهة والله رب الأرباب وإله الالهة.
وما تقدم من معنى الآية مبنى على حمل الاشهاد على معناه الحقيقي وإرجاع الضميرين في " ما أشهدتهم " و " أنفسهم " إلى إبليس وذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، وللمفسرين أقوال اخر.
منها قول بعضهم: إن المراد من الاشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شئ أن يشاوره في أمره والمراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعاني المؤدي إلى الولاية والسلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل: ما شاورتهم