للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والأسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، وإنكارا للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.
وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهي والزينة المعجلة بين أيديهم والأسباب الظاهرية حولهم ولما يقض الامر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الأسباب وطاحت الآمال وجعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه ربا لهم وإلا لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والأسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أو هاما لا تغني عنهم من الله شيئا وقد أخطأوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لانهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.
وبهذا البيان يظهر أن هذه الجمل الأربع: " وعرضوا " الخ " لقد جئتمونا " الخ " بل ظننتم " الخ " ووضع الكتاب " الخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، وأكتفي بها إيجازا في الكلام لحصول الغرض بها.
فقوله: " وعرضوا على ربك صفا " إشارة أولا إلى أنهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لأنفسهم، وثانيا أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء ويشعر به قوله: " على ربك " ولو أكرموا لقيل: ربهم كما قال: " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن " البينة: 8 وقال: " إنهم ملاقوا ربهم " هود: 29 " أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، وثالثا أن أنواع التفاضل والكرامات الدنيوية التي اختلقتها لهم الأوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد، وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطأوا الصواب في حياتهم