ثم إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن اخذا بالترتيب من حيث الافراد فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي أحسن والآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق.
فمن الجائز ان يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام.
ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الآية ان يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل.
وكذا ما ذكره بعضهم ان الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب افهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم أصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لادراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة الألفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان.
ومنهم عوام وهم أصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.
ومنهم أصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة وغلب عليهم تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر ولا يهديهم سائق البراهين وهؤلاء هم الذين أمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.
وفيه انه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات والرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن ولا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.