بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض وفصل بين كل واحد منهم وغيره وهو إشهادهم على أنفسهم، والاشهاد على الشئ هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.
وللنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق والارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الانسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: " أ لست بربكم " يوضح ما أشهدوا لأجله وأريد شهادتهم عليه، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.
فالانسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ، وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته لا يسعه إن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره، ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ثم هي كالانسان في الحاجة إلى ما وراءها، والانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، وليس إلى الانسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها.
فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الانسان، والفقر مكتوب على نفسه، والضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الانساني، والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء.
فالانسان في أي منزل من منازل الانسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه ويدبر أمره، وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية؟ وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: " أ لست بربكم " بيان ما أشهد عليه، وقوله: " قالوا بلى شهدنا " اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه، ولذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الانسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والاحكام، ومعنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد، وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.