الانساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق ويزيد عليه بأشياء فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق.
قلت: على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا. وأما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا، ولا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الأولى: " إن كنا عن هذا غافلين ".
وأما حديث تكامل الانسان في العلم والحضارة تدريجا فإنما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج وفروع تحصل للانسان شيئا فشيئا، وأما شهود الانسان نفسه وأنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج، وهو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس إنطباعا أوليا ثم يتفرع عليها الفروع، وما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولا، وكيف لا ونوع الانسان إنما يتدرج إلى معارفه وعلومه عن الحس الباطني بالحاجة كما قرر في محله.
فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ثم أشهدهم جميعا على أنفسهم وأخذ منهم الميثاق بربوبيته فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد وما أخذ منهم الميثاق حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك وعصى آباؤهم وهم برآء.
ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله: " وإذ أخذ ربك " هو الدنيا، والآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الإلهية الجارية على الانسان في الدنيا فإن الله سبحانه يخرج الذرية الانسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ومنها إلى الدنيا، ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم، ويريهم آثار صنعه وآيات وحدانيته، ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة الدالة على وجوده ووحدانيته فكأنه يقول لهم عند ذلك: أ لست بربكم، وهم يجيبونه بلسان حالهم: بلى شهدنا بذلك وأنت ربنا لا رب غيرك، وإنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة، أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا،