وعلى هذا يكون قولهم: " بلى شهدنا " من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، والفرق بين لسان الحال، والقول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشئ لدلالة صفة من صفاته وحال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، وكيف لعب الدهر بهم؟ وعدت عادية الأيام عليهم؟
فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم، وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله. والثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.
فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال والقول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: " قالوا بلى شهدنا " والأول أقرب وأنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.
ومن المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: " أ لست بربكم " فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المسألة والمجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، والايجاد كلام حقيقي - وإن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: " أ لست بربكم " وقولهم: " بلى شهدنا من ذاك القبيل، وسيجئ للكلام تتمه.
وكيف كان فقوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، وإشهاد كل واحد منهم على نفسه، وأخذ الاعتراف على الربوبية منه، ويدل ذيل الآية وما يتلوه أعني قوله: " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون " على الغرض من هذا الاخذ والاشهاد.
وهو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله وبيان أنه لولا هذا الاخذ والاشهاد وأخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة