وإليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه لاعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.
الثالث: أنه إنما جر إلى نفسه ليناجيه ويستفسر حال القوم منه، ولذلك لما ذكر هارون ما ذكر، قبله منه ودعا له.
الرابع: أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب والأسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف وإهانة فأظهر براءة نفسه ودعا له أخوه وجل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات.
وقوله في صدر الآية " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل، وهو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له وهو في الميقات: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (1).
وإنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه، وإخبار الله سبحانه أصدق من الحس لان الحس يصدق ويكذب، والله سبحانه لا يقول إلا الحق.
وذلك لان للعلم حكما وللمشاهدة حكما آخر، والغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام، ولا يتحقق مورد للدفع والانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس والمشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع والانتقام بالقول والفعل، ولا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا وغما ونظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه وتتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال وهو الفرح، وعند لقاء الحبيب حال آخر وحكم جديد، وكذا إذا شاهدت أمرا عجيبا وأنت وحدك كان حكمه التعجب، وإذا شاهدته ومعك غيرك تعجبت وضحكت، وله نظائر أخر.
قوله تعالى: " قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك " الآية دعاء منه عليه السلام وقد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية.