تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ١٨٩
فقوله: " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الانساني لان الانسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة والسعادة العالية الانسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية وغيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات وقوى مختلفة وتركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغيرها تعاضدا في الفكر والإرادة والعمل.
ومن المعلوم إنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، واشتدت في فكرتها وإرادتها وعملها فأحست وشعرت بدقائق الحوائج، وتنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.
فمن المنن الإلهية أن النسل الانساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، وذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، ولا الأقوام والعشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شؤونها السياسية والاقتصادية والحربية وغيرها مما يوزن بزنة العلم والإرادة والعمل.
وإما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا، والنفوس دهشة، وخربت الديار، ونهبت الأموال، وسفكت الدماء، وأفنت الجموع، واستعبدت العباد، وأذلت الرقاب.
مهلهم الله في عتوهم واعتداءهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، واستووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش واتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم فسلبوا القدرة والإرادة، وحرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبا.
فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة والفراعنة والأكاسرة والفغافرة وغيرهم لم يبق منهم إلا أسماء ان لم تنس، ولم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتني حياة الانسان على التعقل فإذا تعدى ذلك وأخذ في الفساد
(١٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 194 ... » »»
الفهرست