لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الافساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم.
ثم دعاهم ثانيا بقوله: " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " إلى الكف عن الافساد في الأرض بعد ما إصلحها الله بحسب طبعها، والفطرة الانسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، والافساد في الأرض وإن كان بحسب اطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصه - تقريبا - بالافساد الذي يسلب الامن العام في الأموال والاعراض والنفوس كقطع الطرق ونهب الأموال وهتك الاعراض وقتل النفوس المحترمة.
ثم علل دعوته إلى الامرين بقوله: " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " أما كون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلان حياة الانسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الافراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله وهو شيوعه، وإذا شاع البخس والغش والغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفا ء والردي مكان الجيد، والخليط مكان الخالص، وبالآخرة كل شئ محل كل شئ بأنواع الحيل والعلاجات كان فيه هلاك الأموال والنفوس جميعا.
وأما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلان سلب الامن العام يوقف رحى المجتمع الانساني عن حركتها من جميع الجهات وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الانسانية.
فالمعنى إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.
وربما قيل: أن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فأن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه وخسرانه وضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لان انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي وهو الحياة الدنيا التي