وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) (النساء: 140) فإن المراد في الآية وهى مدنية بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام وهى مكية ولا آية غيرها، وهى تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين، ولازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الخ موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله والمقصود به غيره على حد قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) إلى آخر الآية. يريد أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الاثم لا يحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون، فإن الانسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس وتصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الانسان فيها فإن للنفس في كل معصية هوى ومن الواجب على المتقى بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
ومن هذا البيان يظهر أولا: أن نفى الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله انما هو للايماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به، فالكلام في تقدير قولنا: وما على غير الخائضين من حسابهم من شئ إذا كانوا يتقون الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم التقوى والورع عن محارم الله سبحانه.
وثانيا: أن المراد بالتقوى في قوله: (وما على الذين يتقون) التقوى العام وهو الاجتناب والتوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، وفي قوله: لعلهم يتقون) التقوى