مثل العلم بالغيب قال تعالى " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله " النمل - 65 وقال تعالى " إنما الغيب لله " يونس - 20 وقال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " الانعام - 59 فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن - 27. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ولذلك نظائر في القرآن.
وأما الجهة الأولى - وهى أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة فبيانه أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل فهو وإن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية والحفظ نظير قولك " في الصيف ضيعت اللبن " لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شئ منه على المورد وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية وإن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الانسانية لكمالها فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن وهو يقتضي الغذاء اللازم وهو يقتضي الري وهو يقتضي الامر بالسقي مثلا فتأويل قوله اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الانسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شئ آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الامر بالسقي إلى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الانسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه وتكرر المشاهدة ممن شاهده