الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٥٦
يقول أهلكت مالا لبدا. أيحسب أن لم يره أحد. ألم نجعل له عينين. ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين. فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة.
____________________
تقوم قيامة ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه يقول (أهلكت مالا لبدا) يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ويدعونها معالى ومفاخر (أيحسب أن لن يره أحد) حين كان ينفق ما ينفق رثاء الناس وافتخارا بينهم: يعنى أن الله كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للانسان على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف ومن شرفه إنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج برئ فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به - لقد خلقنا الانسان في كبد - أي في مرض، وهو مرض القلب وفساد الباطن. يريد الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد هو أبو الأشد، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه. وقيل الوليد بن المغيرة. لبدا قرئ بالضم والكسر جمع لبدة ولبدة وهو ما تلبد يريد الكثرة، وقرئ لبدا بضمتين جمع لبود ولبدا بالتشديد جمع لابد (ألم نجعل له عينين) يبصر بهما المرئيات (ولسانا) يترجم به عن ضمائره (وشفتين) يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك (وهديناه النجدين) أي طريقي الخير والشر، وقيل الثديين (فلا اقتحم العقبة) يعنى فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين ثم بالايمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير بل غمط النعم وكفر بالمنعم، والمعنى: أن الانفاق على هذا الوجه هو الانفاق المرضى النافع عند الله، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخار فيكون مثله كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم الآية. فان قلت:
قلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله فأي أمر سئ لافعله لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت: هي متكررة في المعنى لان معنى - فلا اقتحم العقبة - فلا فك رقبه ولا أطعم مسكينا، ألا ترى أنه سر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج قوله - ثم كان من الذين آمنوا - يدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن. والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والقحمة الشدة، وجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاما لها لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة مجاهدة الانسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان، وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره، وفى الحديث " أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة، قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم " والعتق والصدقة من أفاضل الأعمال. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: إن العتق أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟
قال: الرقبة أفضل لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ".
قرئ فك رقبة أو إطعام على هي فك رقبة أو إطعام. وقرئ فك رقبة أو أطعم على الابدال من اقتحم العقبة.
وقوله (وما أدراك ما العقبة) اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وترب إذا
(٢٥٦)
مفاتيح البحث: الهلاك (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 ... » »»