الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٥٥
لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد. لقد خلقنا الانسان في كبد. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد.
____________________
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الانسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، واعتراض بين القسم والمقسم عليه بقوله (وأنت حل بهذا البلد) يعنى ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم، عن شرحبيل يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك. وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته، أو على صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الانسان لا يخلوا من مقاساة الشدائد. واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال - وأنت حل بهذا البلد يعنى وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، وذلك أن الله فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء. قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس ابن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ثم قال " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لاحد قبلي ولن تحل لاحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر ". فإن قلت: أين نظير قوله وأنت حل في معنى الاستقبال؟
قلت: قوله - إنك ميت وإنهم ميتون - ومثله واسع في كلام العباد تقول لمن تعده الاكرام والحباء أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع لان الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال وأن تفسيره بالحال محال أن السورة بالاتفاق مكية وأين الهجرة عن وقت نزولها فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للابهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله - والله أعلم بما وضعت - أي بأي شئ وضعت: يعنى موضوعا عجيب الشأن، وقيل هما آدم وولده، وقيل كل والد وولد. والكبد أصله من قولك كبد الرجل كبد فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده، قال لبيد:
يا عين هل بكيت أربد إذ * قمنا وقام الخصوم في كبد أي في شدة الامر وصعوبة الخطب، والضمير في (أيحسب) لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين أن لن
(٢٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 ... » »»