الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٤٧
وجوه يومئذ ناعمة. لسعيها راضية. في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفه. وزرابي مبثوثة.
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت.
____________________
لا يسمن، فلا يخلو إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر، فيرد قولهم بنفي السمن والشبع، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع (ناعمة) ذات بهجة وحسن كقوله - تعرف في وجوههم نضرة النعيم - أو متنعمة (لسعيها راضية) رضيت بعملها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب (عالية) من علو المكان أو المقدار (لا تسمع) يا مخاطب أو الوجوه (لاغية) أي لغوا أو كلمة ذات لغو أو نفسا تلغو لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. وقرئ لا تسمع على البناء للمفعول بالتاء والياء (فيها عين جارية) يريد عيونا في غاية الكثرة كقوله - علمت نفس - (مرفوعة) من رفعة المقدار أم السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم، وقيل مخبوة لهم من رفع الشئ إذا خبأه (موضوعة) كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها، أو موضوعة على حافات العيون معدة للشراب، ويجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله - قدروها تقديرا - (مصفوفة) بعضها إلى جنب بعض مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة واستند إلى أخرى (وزرابي) وبسط عراض فاخرة. وقيل هي الطنافس التي لها خمل رقيق جمع زربية (مبثوثة) مبسوطة أو مفرقة في المجالس (أفلا ينظرون إلى الإبل) نظر اعتبار (كيف خلقت) خلقا عجيبا دالا على تقدير مقدر شاهدا بتدبير مدبر حيث خلقها للنهوض بالاثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وعن بعض الحكماء أنه حدث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش حتى أن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شئ نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحا القاضي فقلت: أين تريد؟
قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت؟ فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت: قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبل في أسماء السحاب كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين، وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيرا في أشعارهم فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز (كيف رفعت) رفعا بعيد المدى بلا مساك وبغير عمد، و (كيف نصبت) نصبا ثابتا فهي راسخة لاتميل ولا تزول، و (كيف سطحت) سطحا بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للمتقلب عليها. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلقت ورفعت ونصبت
(٢٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 252 ... » »»