الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١٩٢
بل يحبون العاجلة. ويذرون الآخرة. وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة. ووجوه يومئذ باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة. كلا إذا بلغت
____________________
الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله (بل تحبون العاجلة) كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شئ ومن ثم تحبون العاجلة (وتذرون الآخرة) وقرئ بالياء وهو أبلغ. فإن قلت: كيف اتصل قوله - لاتحرك به لسانك - إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة هذا التخلص منه إلى التوبيخ بحب العاجلة، وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه عبارة عن الجملة. والناظرة من نضرة النعيم (إلى ربها ناظرة) تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله (إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق إلى الله تصير الأمور - وإلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لانهم الآمنون الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص والذي يصح معه أن يكون من قول الناس أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بن تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل: وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك زدتني نعما وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم تقول: عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. والباسر: الشديد العبوس، والباسل أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه (تظن) تتوقع (أن يفعل بها) فعل هو في شدته وفظاعته (فاقرة) داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير (كلا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتتقلون إلى الأجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في (بلغت) للنفس وإن لم يجر لها ذكر لان الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها كما قال حاتم:
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
(١٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 187 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 ... » »»