الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٥٥
ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
____________________
فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم (ليثبتوك) ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح من قولهم ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح وفلان مثبت وجعا. وقرئ ليثبتوك بالتشديد، وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات. وعن ابن عباس ليقيدوك، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق (ويمكرون) ويخفون المكايد له (ويمكر الله) ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة (والله خير الماكرين) أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب (لو نشاء لقلنا مثل هذا) نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة وأن يماتنهم واحد فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهالكهم على أن يغمروه وقيل قائله النضر بن الحرث المقتول صبرا حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا، وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم واسفنديار، فزعم أن هذا مثل ذاك وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل (إن كان هذا هو الحق) وهذا أسلوب من الجحود بليغ: يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بعذاب آخر، ومراده نفى كونه حقا، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا، فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة، وقوله - هو الحق - تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. وقرأ الأعمش هو الحق بالرفع على أن هو مبتدأ غير فصل، وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال أمطرت السماء كقولك أنجمت وأسبلت، ومطرت كقولك هتنت وهتلت، وقد كثر الإمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله (من السماء) والأمطار لا تكون إلا منها؟ قلت: كأنه أريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل، وهى الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعا (بعذاب أليم) أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم: يعنى أن إمطار السجيل بعض العذاب الأليم فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة؟ قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة، ولم يقولوا:
إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار
(١٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 ... » »»