الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٦٠
أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم. إذ يريكهم الله
____________________
أسفل منكم) يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل، وأسفل نصب على الظرف معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل لأنه خبر للمبتدأ. فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهى خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منهى نجدتهم وقصارى شدتهم. فيه تصوير ما دبر سبحانه ممن أمر وقعة بدر ليقضى أمرا كان مفعولا، من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم حتى نفروا ليمنعوا غيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان (ولو تواعدتم) أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال الخالف بعضكم بعضا، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له (ليقضى) متعلق بمحذوف: أي ليقضى أمرا كان واجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك، وقوله (ليهلك) بدل منه واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام: أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لاعن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضا عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغر المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابرا لنفسه مغالطا لها، وقرئ ليهلك بفتح اللام وحيى بإظهار التضعيف (لسميع عليم) يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم، أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه (إذ يريكهم الله) نصبه بإضمار أذكر، أو هو بدل
(١٦٠)
مفاتيح البحث: الهلاك (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 ... » »»