الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٩٠
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله، والله عنده حسن الثواب. لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل
____________________
شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين. وروي (أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت) (فالذين هاجروا) تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم من دار الفتنة واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشئوا بما سامهم المشركون من الخسف (وأوذوا في سبيلي) من أجله وبسببه يريد سبيل الدين (وقاتلوا وقتلوا) وغزوا المشركين واستشهدوا، وقرئ وقتلوا بالتشديد وقتلوا وقاتلوا على التقديم بالتخفيف والتشديد وقتلوا وقتلوا على بناء الأول للفاعل والثاني للمفعول وقتلوا وقاتلوا على بنائهما للفاعل (ثوابا) في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويبا (من عند الله) لان قوله: لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم، وعنده مثل: أي يختص به وبقدرته وفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه كما يقول الرجل عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته وهذا تعليم من الله كيف يدعي وكيف يبتهل إليه ويتضرع. وتكرير ربنا من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفه وقطع لاطماع الكسالى المتمنين عليه، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولا إليه بالعمل بالجهل والغباوة. وروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية. وعن الحسن: حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد من تقديمه بين يدي الدعاء (لا يغرنك) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد: أي لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون. عن ابن عباس: هم أهل مكة، وقيل هم اليهود. وروي أن أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أن مدره القوم ومتقدمهم يخاطب بشئ فيقرم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل لا يغرنكم. والثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله - ولا تكن من الكافرين - ولا تكونن من المشركين - ولا تطع المكذبين - وهذا في النهي نظير قوله في الامر: - اهدنا الصراط المستقيم - يا أيها الذين آمنوا آمنوا - وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب لان التقلب لو غره لاغتر به فمنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ لا يغرنك بالنون الخفيفة (متاع قليل) خبر مبتدأ محذوف: أي ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد أراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه
(٤٩٠)
مفاتيح البحث: القتل (2)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 485 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 ... » »»