الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٨٦
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون. لا يحسبن الذين يفرحون
____________________
الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق للعباد شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من يصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه، والبلاء في الأنفس القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. وفي الأموال الانفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف، وصد من أراد الايمان وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص ومن بني قريظة والنضير (فإن ذلك) فإن الصبر والتقوى (من عزم الأمور) من معزومات الأمور: أي مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم الله أن يكون يعنى أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا (وإذ أخذ الله) واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب (لتبيننه) الضمير للكتاب أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له الله لتفعلن (فنبذوه وراء ظهورهم) فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد، ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إليه غيرهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم (من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار) وعن طاوس أنه قال لوهب: إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب، وقال: والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن الله سيعذبك. وعن محمد بن كعب لا يحل لاحد من العلماء أن يسكت على علمه، ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. وقرئ ليبيننه ولا يكتمونه بالياء. لانهم غيب وبالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله - وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن - (لا تحسبن) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المفعولين (الذين يفرحون) والثاني بمفازة، وقوله فلا تحسبنهم تأكيد تقديره لا تحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بضم الباء على خطاب المؤمنين، ولا يحسبن فلا يحسبنهم بالياء وفتح الباء فيهما على أن الفعل للرسول، وقرأ أبي عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الفعل للذين يفرحون، والمفعول الأول محذوف على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون
(٤٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 481 482 483 484 485 486 487 488 489 490 491 ... » »»