الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٨٨
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار
____________________
صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إن في خلق السماوات والأرض.
وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت له أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال ما أذكر، قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر قال لعل، قالت: فما أتيت إلا من ذاك (الذين يذكرون الله) ذكرا دائبا على أي حال كانوا من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله فقال بعضهم: أما قال الله تعالى - يذكرون الله قياما وقعودا - فقاموا يذكرون الله على أقدامهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله) وقيل معناه:
يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء) وهذه حجة للشافعي رحمه الله في إضجاع المريض على جنبه كما في اللحد. وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه يستلقي حتى إذا وجد خفة قعد. ومحل (على جنوبهم) نصب على الحال عطفا على ما قبله كأنه قيل قياما وقعودا ومضطجعين (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) وما يدل عليه اختراع هذه الاجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الافهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه. وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم والى السماء فقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا عبادة كالتفكر) وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متي، فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض) قالوا: وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لان أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض (ما خلقت هذا باطلا) على إرادة القول: أي يقولون ذلك وهو في محل الحال بمعنى يتفكرون قائلين، والمعنى: ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك، ولذلك وصل به قوله (فقنا عذاب النار) لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: إلى الخلق على أن المراد به المخلوق كأنه قيل:
ويتفكرون في مخلوق السماوات والأرض: أي فيما خلق منها، ويجوز أن يكون إشارة إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. وفي هذا ضرب من التعظيم كقوله - إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم - ويجوز أن يكون باطلا حالا من هذا. وسبحانك اعتراض للتنزيه من العبث)
(٤٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 483 484 485 486 487 488 489 490 491 492 493 ... » »»