الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٨٣
ولهم عذاب مهين. ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم. ولا يحسبن الذين يبخلون
____________________
للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر وليس شئ منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الاثم جعل علة للامهال وسببا فيه. فإن قلت: كيف يكون ازدياد الاثم علة للاملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شئ أنهم مزدادون إثما فكأن الاملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية، ولا يحسبن بالياء على معنى: ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الاثم كما يفعلون وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الايمان، وقوله أنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت: فما معنى قوله (ولهم عذاب مهين) على هذه القراءة؟ قلت:
معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا لزيادة الاثم وللتعذيب والواو للحال كأنه قيل ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين. اللام لتأكيد النفي (على ما أنتم عليه) من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين (حتى يميز الخبيث من الطيب) حتى يعزل المنافق عن المخلص، وقرئ يميز من ميز، وفي رواية عن ابن كثير يميز من أماز بمعنى ميز. فإن قلت: لمن الخطاب في أنتم؟ قلت: للمصدقين جميعا من أهل الاخلاص والنفاق كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم. ثم قال (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) أي وما كان الله ليؤتي أحدا منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها (ولكن الله) يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الاخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات، ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به وما كان الله ليطلع أحدا منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعا عليها، (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) فيخبره ببعض المغيبات (فآمنوا بالله ورسله) بأن تقدروه حق قدره وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب وليسوا من علم الغيب في شئ. وعن السدي قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت (ولا تحسبن) من قرأ بالتاء قدر مضافا محذوفا: أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله أو ضمير أحد، ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان المفعول الأول
(٤٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 478 479 480 481 482 483 484 485 486 487 488 ... » »»