الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٢٥
محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك
____________________
وعيسى ابني خالة. روي أنها كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت، فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت: اللهم إن لك علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل (محررا) معتقا لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشئ وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم. وروي أنهم كانوا ينذرون هذا النذر فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل. وعن الشعبي محررا مخلصا للعبادة وما كان التحرير إلا للغلمان وإنما بنت الأمر على التقدير أو طلبت أن ترزق ذكرا (فلما وضعتها) الضمير لما في بطني وإنما أنث على المعنى، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. فإن قلت:
كيف جاز انتصاب (أنثى) حالا من الضمير في وضعتها وهو كقولك وضعت الأنثى أنثى؟ قالت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال وذا الحال لشئ واحد، كما أنث الاسم في - ما كانت أمك - لتأنيث الخبر ونظيره قوله تعالى - فإن كانتا اثنتين - وأما على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر كأنه قيل إني وضعت الحبلة أو النسمة أنثى. فإن قلت: فلم قالت إني وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسرا على ما رأت من خيبة رجائها، وعكس تقديرها فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة، ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن، قال الله تعالى (والله أعلم بما وضعت) تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه، ومعناه والله أعلم بالشئ الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا، فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس والله أعلم بما وضعت على خطاب الله تعالى لها: أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلو قدره. وقرئ وضعت بمعنى، ولعل لله تعالى فيه سرا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها. فإن قلت: فما معنى قوله (وليس الذكر كالأنثى)؟ قلت: هو بيان لما في قوله: واللهم أعلم بما وضعت من التعظيم للموضوع والرفع منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد.
فإن قلت: علام عطف قوله (وإني سميتها مريم)؟ قلت: هو عطف على إني وضعتها أنثى وما بينهما جملتان
(٤٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 420 421 422 423 424 425 426 427 428 429 430 ... » »»