الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٢٩
إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار. وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم
____________________
بذكر الله ولذلك قال (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة بذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه (إلا رمزا) إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما وأصله التحرك، يقال ارتمز: إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب - إلا رمزا - بضمتين جمع رموز كرسول ورسل، وقرئ رمزا بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة كقوله:
متى ما تلقني فردين ترجف * روانف إليتك وتستطارا بمعنى: إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم، والعشي من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقرئ والأبكار بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار، يقال أتيته بكرا بفتحتين. فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟ قلت: لما أدى مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاما، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا (يا مريم) روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى (اصطفاك) أولا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية (وطهرك) مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود (واصطفاك) آخرا (على نساء العالمين) بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها، ثم قيل لها (واركعي مع الراكعين) بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين: أي في الجماعة، أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم، ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع (ذلك) إشارة إلى ما سبق من نبأ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ونحوه - وما كنت بجانب الغربي - وما كنت بجانب الطور - وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم - (أقلامهم) أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر متقرعين، وقيل هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة
(٤٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 424 425 426 427 428 429 430 431 432 433 434 ... » »»