الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٢٧
وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكرياء كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
هنالك دعا زكرياء ربه قال رب هب لي من لدنك
____________________
لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها. والثاني أن يكون مصدرا على تقدير حذف المضاف بمعنى فتقبلها بذي قبول حسن:
أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص، ويجوز أن يكون معنى فتقبلها فاستقبلها كقولك تعجله بمعنى استعجله وتقصاه بمعنى استقصاه، وهو كثير في كلامهم من استقبل الأمر إذا أخذه بأوله وعنفوانه، قال القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه * وليس بأن تتبعه اتباعا ومنه المثل خذ الأمر بقوابله: أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن (وأنبتها نباتا حسنا) مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، وقرئ وكفلها زكريا بوزن وعملها (وكفلها زكرياء) بتشديد الفاء ونصب زكرياء الفعل لله تعالى بمعنى وضمها إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها، ويؤيدها قراءة أبي وأكفلها من قوله تعالى - فقال أكفلنيها - وقرأ مجاهد فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ونصب ربها تدعو بذلك: أي فأقبلها يا ربها وربها واجعل زكريا كافلا لها، قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد:
أي غرفة يصعد إليها بسلم، وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس، وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب، وروي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب (وجد عندها رزقا) كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (أنى لك هذا) من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك (قالت هو من عند الله) فلا تستبعد، قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها وقال: هلمي يا بنية، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أنى لك هذا؟
فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها " (إن الله يرزق) من جملة كلام مريم عليها السلام أو من كلام رب العزة عز من قائل (بغير حساب) بغير تقدير لكثرته أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل بحسب الاستحقاق (هنالك) في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت، فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب في أن يكون له من
(٤٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 422 423 424 425 426 427 428 429 430 431 432 ... » »»