فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم، وما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل وتغره حجارة الأرض، وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهو زينة الدنيا، وهو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كله وبالا عليه، وهو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه، والحزن والهم لحفظه، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله.
وقد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الانسان عليها، قالوا الأحوال ثلاثة:
حال لم يكن الانسان فيها شيئا، وهي ما قبل وجوده إلى الأزل، وحال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا، وهي بعد موته إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأزل والأبد، وهي أيام حياته في الدنيا، فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين، ولينظر إلى الحالة المتوسطة، هل يجد لها نسبه إليها (1)، وإذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، في ضر وضيق، أو في سعة ورفاهة، بل لا يبنى لبنة على لبنة، توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال: أرى الامر أعجل من هذا، وأنكر ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلها كراكب سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها، وإلى هذا أشار عيسى بن مريم حيث قال: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وهو مثل صحيح، فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة، والمهد هو أحد جانبي القنطرة، واللحد الجانب الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلا بد من العبور والانتهاء، ولا ريب أن عمارة هذه القنطرة، وتزيينها بأصناف الزينة لمن