شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٩ - الصفحة ٣٢٩
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم، وما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل وتغره حجارة الأرض، وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهو زينة الدنيا، وهو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كله وبالا عليه، وهو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه، والحزن والهم لحفظه، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله.
وقد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الانسان عليها، قالوا الأحوال ثلاثة:
حال لم يكن الانسان فيها شيئا، وهي ما قبل وجوده إلى الأزل، وحال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا، وهي بعد موته إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأزل والأبد، وهي أيام حياته في الدنيا، فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين، ولينظر إلى الحالة المتوسطة، هل يجد لها نسبه إليها (1)، وإذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، في ضر وضيق، أو في سعة ورفاهة، بل لا يبنى لبنة على لبنة، توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال: أرى الامر أعجل من هذا، وأنكر ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلها كراكب سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها، وإلى هذا أشار عيسى بن مريم حيث قال: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وهو مثل صحيح، فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة، والمهد هو أحد جانبي القنطرة، واللحد الجانب الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلا بد من العبور والانتهاء، ولا ريب أن عمارة هذه القنطرة، وتزيينها بأصناف الزينة لمن

(1) كذا في ا، وفى ب، د: (إليهما).
(٣٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 324 325 326 327 328 329 330 331 332 333 334 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تابع ما ورد من حكمه عليه السلام ومختار أجوبة مسائله، وكلامه 7
2 فصل في الحياء وما قيل فيه 45
3 مثل من شجاعة علي عليه السلام 60
4 قصة غزوة الخندق 62
5 ما جرى بين يحيى بن عبد الله وعبد الله بن مصعب عند الرشيد 91
6 من كلامه عليه السلام لكميل بن زياد النخعي وشرح ذلك 99
7 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن عبيد 116
8 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن قتيبة 124
9 خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف الألف 140
10 من كلامه عليه السلام في وصف صديق وشرح ذلك 183
11 نبذ من الأقوال الحكيمة في حمد القناعة وقلة الأكل 184
12 نبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر والغنى 227
13 نبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد والمطل 248
14 نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها 287
15 أقوال مأثورة في الجود والبخل 316
16 نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها 326
17 مما ورد في الطيب من الآثار 341
18 نبذ مما قيل في التيه والفخر 352
19 طرائف حول الأسماء والكنى 365
20 أقوال في العين والسحر والعدوي والطيرة والفأل 372
21 نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها 383