شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٩ - الصفحة ٣٢٨
ورأسه، وجلس في المكان الضيق في السفينة، وهو متأسف على أخذه ونادم، وليس ينفعه ذلك، وبعضهم تولج بتلك الأنوار والغياض، ونسي السفينة وأبعد في متفرجه ومتنزهه، حتى إن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار، واشتمامه تلك الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، والسقطات والنكبات، ونهش الحيات، وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه، وغصن يجرح جسمه، ومروة تدمى رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يملأ طريقه، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله، فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا، فبقي على الشط حتى مات جوعا. وبعضهم بلغه النداء، فلم يعرج عليه، واستغرقته اللذة، وسارت السفينة، فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من ارتطم في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة. فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار والفاكهة اللذيذة، والأحجار المعجبة، فإنها استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من ذهابها عن جميع أموره، وضاق عليه بطريقها مكانه، فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار، وفسدت تلك الفاكهة الغضة، وكمدت ألوان الأحجار وحالت، فظهر له نتن رائحتها، فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها وقد أثر في مزاجه ما أكله منها، فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل وما شم من تلك الروائح، فبلغ سقيما وقيذا مدبرا، وأما من كان رجع عن قريب وما فاته إلا سعة المحل، فإنه تأذى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، وأما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا.
(٣٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 323 324 325 326 327 328 329 330 331 332 333 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تابع ما ورد من حكمه عليه السلام ومختار أجوبة مسائله، وكلامه 7
2 فصل في الحياء وما قيل فيه 45
3 مثل من شجاعة علي عليه السلام 60
4 قصة غزوة الخندق 62
5 ما جرى بين يحيى بن عبد الله وعبد الله بن مصعب عند الرشيد 91
6 من كلامه عليه السلام لكميل بن زياد النخعي وشرح ذلك 99
7 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن عبيد 116
8 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن قتيبة 124
9 خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف الألف 140
10 من كلامه عليه السلام في وصف صديق وشرح ذلك 183
11 نبذ من الأقوال الحكيمة في حمد القناعة وقلة الأكل 184
12 نبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر والغنى 227
13 نبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد والمطل 248
14 نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها 287
15 أقوال مأثورة في الجود والبخل 316
16 نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها 326
17 مما ورد في الطيب من الآثار 341
18 نبذ مما قيل في التيه والفخر 352
19 طرائف حول الأسماء والكنى 365
20 أقوال في العين والسحر والعدوي والطيرة والفأل 372
21 نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها 383