ورأسه، وجلس في المكان الضيق في السفينة، وهو متأسف على أخذه ونادم، وليس ينفعه ذلك، وبعضهم تولج بتلك الأنوار والغياض، ونسي السفينة وأبعد في متفرجه ومتنزهه، حتى إن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار، واشتمامه تلك الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، والسقطات والنكبات، ونهش الحيات، وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه، وغصن يجرح جسمه، ومروة تدمى رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يملأ طريقه، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله، فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا، فبقي على الشط حتى مات جوعا. وبعضهم بلغه النداء، فلم يعرج عليه، واستغرقته اللذة، وسارت السفينة، فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من ارتطم في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة. فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار والفاكهة اللذيذة، والأحجار المعجبة، فإنها استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من ذهابها عن جميع أموره، وضاق عليه بطريقها مكانه، فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار، وفسدت تلك الفاكهة الغضة، وكمدت ألوان الأحجار وحالت، فظهر له نتن رائحتها، فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها وقد أثر في مزاجه ما أكله منها، فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل وما شم من تلك الروائح، فبلغ سقيما وقيذا مدبرا، وأما من كان رجع عن قريب وما فاته إلا سعة المحل، فإنه تأذى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، وأما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا.
(٣٢٨)