بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٨٨ - الصفحة ٣٦٤
وهم يضمنون له ما يأخذ عليهم على اختلاف الموارد.
فعن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب: على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا تأتى ببهتان نفترينه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فان وفيتم فلكم الجنة وان غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عز وجل، ذلك أن شاء عذب وان شاء غفر.
وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في بيعة العقبة الثانية: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فأخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وآله وقال:
نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله!
واغترضه ابن التيهان فقال: ذلك أن بيننا وبين الرجال حبالا وانا قاطعوها - يعنى اليهود - فهل عسيت ذلك أن نحن قلنا ذلك ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، انا منكم وأنتم منى: أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
وروى أن عباسا عم رسول الله صلى الله عليه وآله شرط عليهم مصيبة الأموال وقتلالاشراف فقالوا فما لنا بذلك يا رسول الله ذلك أن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.
وهكذا كان يضمن لهم الجنة والرضوان من الله عز وجل بتة حين يبايعهم في الحروب على أن لا يفروا وان خاطرهم الموت كما بايعهم في الحديبية، والى ذلك يشير قوله عز وجل: " ذلك أن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما " الفتح: 10.
ففي كل هذه الموارد، إنما يضمن لهم رسول الله الجنة فيكون الصفقة معه ويد الله فوق أيديهم، لكن هذه المبالغة مع الرسول صلى الله عليه وآله، لمن تكن كمبايعة الله عز وجل في آية الاشتراء ولذلك قال عز وجل في آية الاشتراء: " ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ذلك هو الفوز العظيم " يعنى الفوز بالجنة والرضوان، وقال عز من قائل في آية المبايعة مع الرسول: " ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ".
ثم إنه عجل لهم أجرهم في هذه الدنيا وقال: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه - الآية 18 - 20 من سورة الفتح.
ولذلك نفسه كان رسول الله صلى الله عليه وآله يستشفع لهم إلى الله عز وجل عند خاصة أمرهم أن يغفر لهم ويعفو عن ذنوبهم وسيئاتهم ليتم لهم الاخذ بالضمانة، كما قال عز وجل في كتابه:
" يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن و لا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ذلك أن الله غفور رحيم " الممتحنة: 12.
فأوجب عليه صلى الله عليه وآله الاستغفار لهن بالشفاعة ليتم له الوفاء بالضمانة، وليس الاستغفار والشفاعة الا بعد خاتمة الامر بالموت لئلا يتعاقبه سيئة أخرى لم تغفر.
هذا حال المبايعة مع الرسول صلى الله عليه وآله، حيث كان يد الله فوق أيديهم وكان يضمن لهم الجنة ويشفعها بالاستغفار بعد الموت ليتم لهم الضمان، حيث كان وعد الشفاعة في المذنبين امر بالاستغفار لهم، ولمن يكن الله عز وجل ليعده الشفاعة ولا يقبلها منه، ولا ليأمره بالاستغفار لهم وهو لا يغفر لهم.
وأما أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله فقد لبسوا وموهوا على المسلمين شأن هذه البيعة، و خانوا الله ورسوله في تلبيسهم هذا حيث ألزموا الطاعة على أنفسهم بالمبايعة الصورية كما كانوا يلزمون الطاعة على أنفسهم بالمبايعة مع الله والرسول:
أرادوا رجلا من عرض الناس ليس على حجة من الله ولا على بينة من نبيه، ليس له أمر الجنة والنار حتى يضمن لمطيعه الجنة ويهدد عاصيه بالنار، ولا له حق الشفاعة ونفاذ الاستغفار، ليشفع لهم ويستغفر ولا هو قسيم النار ليقول يوم القيامة هذا عدوى خذيه لك وهذا وليي ذريه معي يدخل الجنة ولا... ولا... وألف ولا.
أعطوه الطاعة في أمر الدين الإلهي من دون أن يكون بأعلمهم، وانقادوا له في أمر البيئة والمجتمع من دون أن يكون معصوما من الخطأ والوقيعة، وأخذوا بأعناق الناس يجرونهم إلى بيعته وليس يجب عليهم طاعته وولايته الا بعد البيعة بزعمهم.
نعم بايعوه بيعة مادية كمبايعة أهل السوق فالتزموا طاعته ونصحه وضربوا الرقاب في اعلاء أمره، من دون أن يأخذوا منه في مقابله شيئا الا الوعد بتنظيم أمورهم في الدنيا الفانية، ولا يتم له الوفاء بهذا الوعد الا بعد اجتماعهم عليه ونصحهم وطاعتهم له، فأصبحت بيعتهم هذه لا هي بيعة واقعية دينية ولا بيعة سوقية صحيحة يستوفى فيها الثمن والمثمن، ولا هو استجار وقع على شرائطه حتى نعرج على انفاذه شرعا.
فما الذي يوجب على المؤمنين الموحدين أن يلتزموا بهذه الصفقة الغاشمة، وهم لا يريدون الا الدين ولا يبغون لأنفسهم ثمنا الا الجنة ورضوان من الله أكبر لو كانوا يعقلون.
" من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.