خلق ينتصب قائما ويستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما، فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الاعمال.
انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الانسان في خلقه وشرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعرضها الآفات و تصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها. ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلبها واطلاعها نحو الأشياء. فلما لم يكن لها في شئ من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواس، وهو بمنزلة الصومعة لها.
فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكيلا يفوتها شئ من المحسوسات: فخلق البصر ليدرك الألوان، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم يكن فيها منفعة، وخلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب، وكذلك سائر الحواس ثم هذا يرجع متكافئا: فلو كان بصرا ولم يكن ألوانا لما كان للبصر معنى، ولو كان سمع ولم يكن أصوات لم يكن للسمع موضع. فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكل حاسة محسوسا يعمل فيه، ولكل محسوس حاسة تدركه، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحواس إلا بها كمثل الضياء والهواء، فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون.
ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت. فهل يخفى على من صح نظره وأعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا وتهيئة أشياء أخربها تتم الحواس لا يكون إلا بعمد وتقدير من لطيف خبير؟
فكر يا مفضل في من عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في أموره، فإنه لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرق بين الألوان وبين المنظر الحسن و القبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها، ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له