سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة، حتى أنه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى. وكذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة، فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة، ويعدم لذة الأصوات واللحون الشجية المطربة، ويعظم المؤنة على الناس في محاورته حتى يتبرموا (1) به، ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم، حتى يكون كالغائب وهو شاهد، أو كالميت وهو حي. فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيرا مما يهتدي إليه البهائم! أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال التي بها صلاح الانسان، والتي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل، يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها. فلم كان كذلك إلا لأنه خلق بعلم وتقدير.
قال المفضل: فقلت: فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟
قال عليه السلام: ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه، كما قد يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوب من تدبيرهم. ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا و أنابوا لما (2) يستصغرون معه ما ينالهم منها، حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.
فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا وما في ذلك من الحكمة و التقدير والصواب في التدبير. فالرأس مما خلق فردا، ولم يكن للانسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد. ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الانسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه، لان الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد. ثم كان الانسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان، فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا إرب فيه ولا حاجة إليه، وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه، وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر لم يدر السامع بأي