أحد الشاغلين في حالة النوم، فإن الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين و ينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل الادراك بها، وهذه الحالة هي اليقظة فتشتغل النفس بتلك الادراكات، فإذا انخنس الروح إلى الباطن تعطلت هذه الحواس وهذه الحالة هي النوم، وبتعطلها يخف إحدى شواغل النفس عن الاتصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتصل حينئذ بتلك المبادئ اتصالا روحانيا، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ مما استعدت هي لان تكون منتقشة به، كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض، والقوة المتخيلة جبلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكي تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئية مناسبة لها، ثم تصير تلك الصور الجزئية في الحس المشترك فتصير مشاهدة، وهذه هي الرؤيا الصادقة.
ثم إن الصور التي تركبها القوة المتخيلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس حتى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركبتها القوة المتخيلة تفاوت إلا في الكلية والجزئية، كانت الرؤيا غنية عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة إلا أنه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه ما، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصورة التي في الخيال إلى المعنى الذي صورته المتخيلة بتلك الصورة. وأما إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين الصورة التي ركبتها القوة المتخيلة مناسبة أصلا لكثرة انتقالات المتخيلة من صورة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أصلا، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام، و لهذا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب، لان قوتهما المتخيلة قد تعودت الانتقالات الكاذبة الباطلة (انتهى).
ولا يخفى أن هذا رجم بالغيب، وتقول بالظن والريب، ولم يستند إلى دليل وبرهان، ولا إلى مشاهدة وعيان، ولا إلى وحي إلهي، مع ابتنائه على إثبات العقول المجردة والنفوس الفلكية المنطبعة، وهما مما نفتهما الشريعة المقدسة، كما تقرر في محله.
وقال الرازي في - المطالب العالية - في بيان طريقة الفلاسفة في كيفية صدور