وقال بقلبه: سمعنا وعصينا مخالفا لما قال بلسانه، وعفروا خدودهم اليمنى (1) وليس قصدهم التذلل لله تعالى والندم على ما كان منهم من الخلاف، ولكنهم فعلوا ذلك ينظرون هل يقع عليهم الجبل أم لا، ثم عفروا خدودهم اليسرى ينظرون كذلك، ولم يفعلوا ذلك كما أمروا.
فقال جبرئيل لموسى عليه السلام: أما إن أكثرهم لله تعالى عاصون، ولكن الله تعالى أمرني أن أزيل عنهم هذا الجبل عند ظاهر اعترافهم في الدنيا فإن الله إنما يطالبهم في الدنيا بظواهرهم لحقن دمائهم، وإبقاء الذمة لهم، (2) وإنما أمرهم إلى الله في الآخرة يعذبهم على عقودهم وضمائرهم، فنظر القوم إلى الجبل وقد صار قطعتين: قطعة منه صارت لؤلؤة بيضاء فجعلت تصعد وترقى حتى خرقت السماوات وهم ينظرون إليها إلى أن صارت إلى حيث لا يلحقها أبصارهم، وقطعة صارت نارا ووقعت على الأرض بحضرتهم فخرقتها و دخلتها وغابت عن عيونهم، فقالوا: ما هذان المفترقان من الجبل؟ فرق صعد لؤلؤا وفرق انحط نارا؟ (3) قال لهم موسى: أما القطعة التي صعدت في الهواء فإنها وصلت إلى السماء فخرقتها إلى أن لحقت بالجنة فأضعفت أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله، وأمر الله أن يبنى منها للمؤمنين بما في هذا الكتاب قصور ودور ومنازل ومساكن مشتملة على أنواع النعمة التي وعدها المتقين من عباده، من الأشجار والبساتين والثمار والحور الحسان والمخلدين من الولدان كاللآلي المنثورة، وسائر نعيم الجنة وخيراتها، وأما القطعة التي انحطت إلى الأرض فخرقتها ثم التي تليها إلى أن لحقت بجهنم فأضعفت أضعافا كثيرة، وأمر الله تعالى أن يبنى منها للكافرين بما في هذا الكتاب قصور ودور ومساكن ومنازل مشتملة على أنواع العذاب التي وعدها الكافرين من عباده، من بحار نيرانها وحياض غسلينها وغساقها وأودية قيحها ودمائها وصديدها وزبانيتها بمرزباتها وأشجار زقومها وضريعها (4) وحياتها