بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤ - الصفحة ١٢٥
والاثبات أيضا مما قد جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه، ثم قال:
قالت الرافضة: البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء " انتهى كلامه لعنه الله.
ولا أدري من أين أخذ هذا القول الذي افترى عليهم مع أن كتب الامامية المتقدمين عليه كالصدوق والمفيد والشيخ والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم مشحونة بالتبري عن ذلك، ولا يقولون إلا ببعض ما ذكره سابقا أو بما هو أصوب منها كما ستعرف، والعجب أنهم في أكثر الموارد ينسبون إلى الرب تعالى مالا يليق به، والامامية قدس الله أسرارهم يبالغون في تنزيهه تعالى ويفحمونهم بالحجج البالغة، ولما لم يظفروا في عقائدهم بما يوجب نقصا يباهتونهم ويفترون عليهم بأمثال تلك الأقاويل الفاسدة، وهل البهتان و الافتراء إلا دأب العاجزين؟ ولو فرض أن بعضا من الجهلة المنتحلين للتشيع قال بذلك فالامامية يتبرؤون منه ومن قوله كما يتبرؤون من هذا الناصبي وأمثاله وأقاويلهم الفاسدة.
فأما ما قيل في توجيه البداء فقد عرفت ما ذكره الصدوق والشيخ قدس الله روحهما في ذلك (1)

(١) تقدم توجيه الصدوق بعد الخبر الواقع تحت رقم ٢٦ وكلام الشيخ بعد رقم ٤١. ولهما ولغيرهما من أعلام الشيعة حول مسألة البداء مقالات أخرى لا يخلو ذكرها عن فائدة.
قال الصدوق في كتاب العقائد: " باب الاعتقاد في البداء " إن اليهود قالوا: إن الله تبارك وتعالى قد فرغ من الامر: قلنا: بل هو تعالى كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يحيى ويميت، ويخلق ويرزق، ويفعل ما يشاء، وقلنا: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " وأنه لا يمحو إلا ما كان، ولا يثبت إلا ما لم يكن، وهذا ليس ببداء كما قالت اليهود واتباعهم فنسبنا في ذلك إلى القول بالبداء، وتبعهم على ذلك من خالفنا من أهل الأهواء المختلفة، وقال الصادق عليه السلام:
" ما بعث الله نبيا قط حتى يأخذ عليه الاقرار لله بالعبودية وخلع الأنداد، وان الله يؤخر ما يشاء، ويقدم ما يشاء " ونسخ الشرايع والأحكام بشريعة نبينا وأحكامه من ذلك، ونسخ الكتب بالقرآن من ذلك، وقال الصادق عليه السلام: " من زغم أن الله عز وجل بدا في شئ ولم يعلمه أمس فأبرء منه " وقال: " من زعم أن الله بداله من شئ بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم " اه‍.
وقال الشيخ الطوسي في العدة: البداء حقيقة في اللغة هو الظهور، ولذلك يقال: بدا لنا سور المدينة، وبدا لنا وجه الرأي، وقال الله تعالى: " وبدا لهم سيئات ما عملوا، وبدا لهم سيئات ما كسبوا " ويراد بذلك كله " ظهر " وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد أن لم يكن حاصلا، وكذلك في الظن، فأما إذا أضيف هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز اطلاقه عليه ومنه مالا يجوز، فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه. ويكون اطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما السلام من الاخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن، ويكون وجه اطلاق ذلك فيه تعالى والتشبيه هو أنه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا الهم ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء.
وذكر سيدنا الأجل المرتضى قدس الله روحه وجها آخر في ذلك: وهو أن قال: يمكن حمل ذلك على حقيقته بأن يقال: بداله تعالى بمعنى أنه ظهر له من الامر ما لم يكن ظاهرا له، و بداله من النهى ما لم يكن ظاهرا له، لان قبل وجود الأمر والنهي لا يكونان ظاهرين مدركين، وإنما يعلم أنه يأمر أو ينهى في المستقبل، فاما كونه آمرا أو ناهيا فلا يصح أن يعلمه الا إذا وجد الأمر والنهي، وجرى ذلك مجرى أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم، بان نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهاد كم موجودا، لان قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا، وإنما يعلم كذلك بعد حصوله فكذلك. القول في البداء وهذا وجه حسن جدا اه‍.
وقال الامام العلامة، معلم الأمة الشيخ المفيد محمد بن النعمان في كتاب تصحيح الاعتقاد في شرح ما قدمنا من كلام الصدوق: قول الإمامية في البداء طريقه السمع دون العقل وقد جاءت الاخبار به عن أئمة الهدى عليهم السلام، والأصل في البداء هو الظهور، قال الله تعالى " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " يعنى به ظهر لهم من أفعال الله تعالى بهم ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم، وقال: " وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم " يعنى ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك، وتقول العرب: " قد بدا لفلان عمل حسن، وبدا له كلام فصيح " كما يقولون: " بدا من فلان كذا " فيجعلون اللام قائمة مقامه، فالمعنى في قول الإمامية: بدا لله في كذا أي ظهر له فيه، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه، وليس المراد منه تعقب الرأي ووضوح أمر كان قد خفى عنه، وجميع أفعاله تعالى الظاهرة في خلقه بعد أن لم تكن فهي معلومة فيما لم يزل، وإنما يوصف منها بالبداء ما لم يكن في الاحتساب ظهوره، ولا في غالب الظن وقوعه، فأما ما علم كونه وغلب في الظن حصوله فلا يستعمل فيه لفظ البداء، وقول أبى عبد الله عليه السلام: " ما بدا لله في شئ كما بدا له في إسماعيل " فإنما أراد به ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك، مظنونا به فلطف له في دفعه عنه، وقد جاء الخبر بذلك عن الصادق عليه السلام فروى عنه عليه السلام أنه قال: " ان القتل قد كتب على إسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه " وقد يكون الشئ مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه، قال الله تعالى: " ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " فتبين أن الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان، ألا ترى إلى قوله تعالى: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الا في كتاب " وقوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " فبين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع بالفسوق، وقال تعالى - فيما خبر به عن نوح عليه السلام في خطابه لقومه -: " استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا " إلى آخر الآيات، فاشترط لهم في مد الأجل وسبوغ النعم الاستغفار، فلما لم يفعلوه قطع آجالهم وبتر أعمارهم واستأصلهم بالعذاب: فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطا في التقدير، وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة، ولا من تعقب الرأي - تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا -.
وقد قال بعض أصحابنا: ان لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة، وإنما أطلق على الله تعالى على وجه الاستعارة كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا غير حقيقة، وان هذا القول لم يضر بالمذهب، إذ المجاز من القول يطلق على الله تعالى فيما ورد به السمع، وقد ورد السمع بالبداء على ما بينا. والذي اعتمدناه في معنى البداء انه الظهور على ما قدمت القول في معناه، فهو خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه يبعد في النظر (الظن خ ل) دون المعتاد، إذ لو كان في كل واقع من أفعال الله تعالى لكان الله تعالى موصوفا بالبداء في كل أفعاله وذلك باطل بالاتفاق. انتهى كلامه.
أقول: إنما أطلنا الكلام في نقل الأقوال حتى يتضح جلية الحال في هذه المرغمة والفرية الشائنة، وترى الباحث أن أقوال الشيعة التي تعرب عن معتقداتهم قديما وحديثا تكذب ما عزاه المخالفون الينا، وأنهم لم يلتزموا بالصدق والأمانة فيما يكتب عن الشيعة بل التزموا بضدها ولم يتركون قوس افكهم منزعا لم يرموا بها الشيعة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا والله خبير بما يعملون.
(١٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تعريف الكتاب تعريف الكتاب 1
2 * (أبواب تأويل الآيات والاخبار الموهمة لخلاف ما سبق) * باب 1 تأويل قوله تعالى: خلقت بيدي، وجنب الله، ووجه الله، ويوم يكشف عن ساق، وأمثالها، وفيه 20 حديثا. 1
3 باب 2 تأويل قوله تعالى: ونفخت فيه من روحي، وروح منه، وقوله صلى الله عليه وآله: خلق الله آدم على صورته، وفيه 14 حديثا. 11
4 باب 3 تأويل آية النور، وفيه سبعة أحاديث. 15
5 باب 4 معنى حجرة الله عز وجل، وفيه أربعة أحاديث. 24
6 باب 5 نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها، وفيه 33 حديثا. 26
7 * (أبواب الصفات) * باب 1 نفي التركيب واختلاف المعاني والصفات، وأنه ليس محلا للحوادث والتغييرات، وتأويل الآيات فيها، والفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال، وفيه 16 حديثا. 62
8 باب 2 العلم وكيفيته والآيات الواردة فيه، وفيه 44 حديثا. 74
9 باب 3 البداء والنسخ، وفيه 70 حديثا. 92
10 باب 4 القدرة والإرادة، وفيه 20 حديثا. 134
11 باب 5 أنه تعالى خالق كل شيء، وليس الموجد والمعدم إلا الله تعالى وأن ما سواه مخلوق، وفيه خمسة أحاديث. 147
12 باب 6 كلامه تعالى ومعنى قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا، وفيه أربعة أحاديث. 150
13 * أبواب أسمائه تعالى وحقائقها وصفاتها ومعانيها * باب 1 المغايرة بين الاسم والمعنى وأن المعبود هو المعنى والاسم حادث، وفيه ثمانية أحاديث. 153
14 باب 2 معاني الأسماء واشتقاقها وما يجوز إطلاقه عليه تعالى وما لا يجوز، وفيه 12 حديثا. 172
15 باب 3 عدد أسماء الله تعالى وفضل إحصائها وشرحها، وفيه ستة أحاديث. 184
16 باب 4 جوامع التوحيد، وفيه 45 حديثا. 212
17 باب 5 إبطال التناسخ، وفيه أربعة أحاديث. 320
18 باب 6 نادر، وفيه حديث. 322