فإن قالوا: فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم!
قيل لهم: هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به، وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد، وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد، وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهد ومستور بذاته.
فأما أصحاب الطبائع فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشئ في طبيعته، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك. (1) فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟ فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه هي صفات الخالق، وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل لخالق الحكيم.
وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق، وكان مما احتجوا به هذه الآفات التي تلد غير مجرى العرف والعادة كالانسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا، أو يكون المولود مشوها (2) مبدل الخلق، فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير، بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون.
وقد كان أرسطا طاليس رد عليهم فقال: إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شئ يأتي في الفرط مرة لاعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها، وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا.
وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس، فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك (3)