وكان سمعه في الطرف متيها فنحله من نعم كرمه ما شفاه من سقم صممه، وكان قلبه في مخافة أخطار الجهل فتداركه بالرأفة وأنوار العقل، ولم يغن جل جلاله شيئا من هذه المواهب عنه سبحانه.
لعل مراده بذلك أن لا ينسى العبد إحسانه ولا يضيع حرمته وسلطانه، بل أفقره في كل حال إليه ليدل جل جلاله بذلك عليه، وأغناه من الممكن والاختيار لينفق غناه في عمارة الأسرار وطهارة الأفكار، ويركب به مطايا الاعتبار ويسير عليها آمنا من خطر الليل والنهار إلى دار القرار، وعرفه بما يدخل عليه في اختياره من الخلل والأخطار انه لم يكن أهلا للغنى في هذا المقدار، وأراه أن ذلك الغنى في المتمكن كان عايذا في الغالب بفقده وذلك الخير إن كان زائدا في نوائب كسره لا يمكن العبد عن مولاه، وأفقره من رضاه وخيراته بما أولاه شغله بدنياه عن اخراه حتى لقد وجدت الفلاسفة وأكثر من ضل بغير عناد أن ضلالهم كان من طريق التوكل والاعتماد على العقول والقلوب والاجتهاد مع الغفلة عن سلطان المعاد.
ولقد كان الله جل جلاله أعذر إليهم وركب الحجة عليهم بما أراهم في العقول والقلوب من مماتها بالنسيان وكثرة آفاتها وتفاوت إرادتها بما يظهر في تصرفاتها من النقصان ما كان كافيا في ترك الاعتماد عليهما مع سقم الغفلة عنه جل جلاله بالاستناد عليها، مثاله: انه يجمع عقلي وقلبي ونفسي وطبعي على سطر كتاب، فإذا فرغت منه رأيت فيه شيئا قد كتبته على خلل بعيد من الصواب حتى لو بقي ذلك لغلط في مرادي منه، فإذا كان مما يعلمه العبد من حاله فواجب عليه أن لا يثق بغير مولاه ولا يعدل أبدا عنه.
فلما رأيت عقلي وقلبي يغفلان وينسيان من حيث لا أدرى ويحصل بذلك ضري وكسرى، وجدتهما لأجل ذلك لا يصلحان للاهتداء والاقتداء، وسألتهما بلسان الحال من أين يعرض لهما حصول الداء؟ فقالا: لا ندري ولا طريق لنا إلى مأمول كمال الشفاء إلا من جانب يعرف من أين طرء علينا أصل هذا البلاء، فاجمع رأيي ورأيهما على مداكف السؤال بلسان الحال إلى كعبة كرم منشئ العقول والقلوب ومالك الآمال في أن يدخلنا في ظل حمى حمايته ويؤهلنا لما هو جل جلاله من رحمته، فوجدنا منه جل جلاله كما أردناه، وزيادات