الحال، ومن اطلع في النقل والآثار، وأشرف على السير والأخبار، لم يخف عليه فقر أبي بكر وصعلكته، وحاجته ومسكنته، وضيق معيشته، وضعف حيلته، وأنه كان في الجاهلية معلما، وفي الإسلام خياطا، وكان أبوه سيئ الحال ضعيفا، يكابد فقرا مهلكا، ومعيشة ضنكا، مكتسبه أكثر عمره من صيد القماري والدباسي (1) الذي لا يقدر على غيره، فلما عمي وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله بن جدعان فنصبه ينادي على مائدته كل يوم لإحضار الأضياف، وجعل له على ذلك ما يقوته من الطعام، فمن أين كان لأبي بكر هذا الحال، وهذه حاله وحال أبيه في الفقر والاختلال!؟
وهم الراوون أن أبا بكر طلب يوما من منزله غشاء لقربة فلم يكن عنده شئ حتى شقت أسماء نطاقها فغشت القربة بنصفه، وزعموا أنه سماها ذات النطاقين (2). وليس بخلاف أنه لما ولي الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) غدا إلى السوق ليتعيش، فقال له المسلمون: لا تفعل ففي ذلك نقص، ونحن نجعل لك من بيت مال المسلمين ما يقوتك، فجعل كل يوم ثلاثة دراهم يعود بها على نفسه وعياله (3)، وهذا يدل على أن الرجل لم يزل فقيرا من أول عمره إلى آخره، ولقد أحسن شاعرنا في قوله:
وإلا فهذا الحال من أين أصله * وفيما روي إنفاقه تجدان