ولكن الله لطيف على معنى نفاذ علمه وقدرته وحكمه في الأشياء الصغار والكبار، ألا ترى كيف نفذت في الذرة والبعوضة وما هو أصغر منهما وفي غيرهما من الحيوانات والنباتات والجمادات والمعادن والأرضين والسماوات وما فيهن وما بينهن مما يعجز عن إدراك قليل منها ومن منافعها وخواصها وآثارها أولو الألباب (والامتناع من أن يدرك) أي امتناعه من أن يدرك ذاته وصفاته من جهة العقل والحواس بحد ونهاية ورسم يحيط بها، وبالجملة لطفه عبارة عن نفوذ علمه وقدرته في الغير، وعدم نفوذ علم الغير وقدرته فيه، ثم أشار إلى أن إطلاق اللطيف على النفاذ غير بعيد لأنه مستعمل في محاورات الناس أيضا بقوله (كقولك للرجل) أي: لإعلامه وإخباره (لطف عني هذا الأمر) يعني لم ينفذ فيه فهمي ولم يبلغ إليه عقلي (ولطف فلان في مذهبه وقوله) إذا دق طريقهما وخفي مأخذهما ولم ينفذ فيهما العقل (يخبرك) في محل النصب على أنه حال عن مقول القول، أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا القول يخبرك (أنه غمض فيه العقل وفات الطلب) غمض بفتح الميم أو ضمها غار، والغموض الغور، والغامض من الكلام خلاف الواضح، والطلب بفتح اللام مصدر بمعنى المفعول، يعني غار فيه العقل وفات مطلوبه ولم ينله لدقته، ولو كان غمض بتشديد الميم من تغميض العين وهو إطباق أجفانها كان في الكلام استعارة مكنية وتخييلية وهو مع ذلك كناية عن عدم إدراك المطلوب، وفي كتاب العيون والتوحيد للصدوق - رحمه الله -: «أنه غمص فبهر العقل» بهر على البناء للمفعول من البهر بالفتح وهو الغلبة، يقال: بهره إذا غلبه فهو مبهور أي مغلوب. يعني هذا القول يخبرك أن ذلك الأمر غامض له غور شديد فبهر العقل وغلب لانقطاع إدراكه وانسداد سبيله قبل الوصول إليه وهذا أظهر وأنسب بالمقام لإفادته صريحا ما هو علة لفوات الطلب أعني غور ذلك الأمر (وعاد متعمقا متلطفا) أي صار ذلك الأمر ذا عمق ودقة (لا يدركه الوهم) لبعد عمقه وغاية دقته وخفاء سبيله.
(فهكذا لطف الله تعالى) الظاهر أن «لطف» على صيغة الفعل دون المصدر.