شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ٢١٦
الأعمال والعقائد; لأن نظام الدين والدنيا ونظام الحقيقة الإنسانية وكمالها إنما يحصل بالفضل والعلم، وتفاوت أقدار الرجال إنما هو بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل والكمال.
(عصمنا الله وإياكم) عن سبيل الباطل والفساد (بالهدى) إلى سبيل الحق والرشاد، هذا دعاء شامل لمن تبعه من العباد إلى يوم المعاد (وثبتنا وإياكم على التقوى) وهي الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات تابعة للخوف الحاصل من مشاهدة آيات الوعيد وما صرحت به الدنيا من انصرام لذاتها وانقطاع شهواتها وما كشفت عنه عبرها من العقوبات النازلة على من خالف فيها ربه وأوقف عليها همه وحصر فيها قصده فإن من حبس قلبه على تلك المشاهدة أفاض الله تعالى عليه صورة خشيته وهي مستلزمة للتقوى ومن ثم قيل: المتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله وعقوباته العاجلة والآجلة وقاية من الطاعات وترك المنهيات.
(وأستغفر الله لي ولكم) ختم بالاستغفار للتنبيه على أنه الأصل العظيم للسالك في رفع الموانع وقطع العلائق المانعة من السلوك على وجه الكمال; لأن السالك وإن اجتهد في السير وبالغ في التقوى فهو بعد في مقام التقصير، والتقصير مانع عظيم، والرافع له هو الاستغفار، وأيضا للسالك مقامات كثيرة (1) بعضها فوق بعض إلى أن يبلغ أعلاها وهو مقام الفناء في الله، ولا ريب في أن كل مقام

1 - «وأيضا للسالك مقامات كثيرة» زعم بعض الناس أن الدين عبارة عن العمل بظواهر الشرائع من العبادات والمعاملات والسياسات على ما يثبت في الفقه بأن يكون صحيحا فإن عمل بالواجب وترك المحرم فقد بلغ أعلى مراتب السعادة وليس وراء ذلك شيء وعلى هذا فلا يعقل أن يكون للسالك مقامات كثيرة لأنه إن لم يعمل بالظواهر فهو فاسق وإن عمل فهو مرتبة واحدة يشترك فيها الجميع، وترقى بعضهم حتى نظر في النية وجعل اختلاف الناس في العمل بنيه التنعم بالجنة أو الخوف من النار أو استحقاق الله تعالى العبادة موجبا لاختلافهم في درجات السعادة الأخروية، وبعضهم ترقى عن ذلك أيضا وجعل ما ورد في الأحاديث من مكارم الأخلاق أيضا من المؤثرات في سعادة الإنسان في الجملة لكن لا بحيث يوجب التخلق بمساويها عذابا في الآخرة وبعدا عن الله تعالى بل جعلوا الأخلاقيات أنزل في الرتبة من المستحبات الفقهية أيضا مثلا المضمضة والاستنشاق وغسل اليد قبل الطعام مؤثرة في الوصول إلى درجات النعيم ولا يضر الحقد والحسد وحب الدنيا والجاه شيئا إذا لم يظهر منهم عمل منهي عنه في الفقه، وأفرط جماعة في مقابلة هؤلاء وقالوا: يكفي التخلق بمكارم الاخلاق ولا يؤثر في سعادة الآخرة هذه الأعمال الظاهرة أصلا وربما يتركون الشرائع والاحكام بزعم أنها وضعت لتدبير السياسة الدنيوية ولا يبقى منه أثر في الآخرة أو هي آداب لحفظ صحة الأبدان كالسواك وغسل اليد ولا تأثير لها في تهذيب النفوس. والمذهب الحق متابعة ما ورد في الشرع سواء سمي فقها أو أخلاقا، فروعا أو أصولا، ويجب الجمع بين جميع الأوامر وترك جميع النواهي سواء تعلق بعمل الجوارح الظاهرة أو القلب والنفس وإن كان عمل الجوارح الظاهرة مشتركا بين جميع الناس ويفهمه كلهم ويستطيع امتثاله، بخلاف العقايد والأخلاق فالناس مختلفون فيها جدا والسلوك فيها عبارة عن التدرج في مراتبها. ثم إن تأثير الأعمال والاخلاق من جهة الإعداد وتهيئة قلب الإنسان بصفائه وتوجهه إلى الغيب لنزول بركات لا يدركها إلا من نالها، لا لأن نفس الأعمال ومكارم الاخلاق أمور مقصودة لذاتها بل لأنها أسباب لكمال آخر مقصود بذاته يبقى مع النفس بعد المفارقة عن البدن، ومعنى تجسم الاعمال أو الملكات ذلك، فالحسد مثلا أو الغضب أو حب الدنيا ملكات خبيثة بدنية والبدن آلة لوجودها بتأثر من الأوهام والشهوات البدنية فإذا زالت لم يبق علة لوجود الحسد وأمثالها لكنها ما دامت في الدنيا مصاحبة لقلب الإنسان منعت من التوجه إلى الغيب وأن يترقى إلى أن يعرف الله ويتحقق بمعرفته، وبعبارة أوفق بالاصطلاح: أن يفنى في الله ولا يتوجه إلى غيره بل يرى أنه ليس شئ غيره. (ش)
(٢١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 ... » »»
الفهرست