شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٣ - الصفحة ١٨٤
وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة (1) ويدل على المعنى الثاني ما سيجيء قريبا من الروايات المعتبرة وبالجملة هذان المعنيان مشهوران (2) في ألسنة الأصحاب وغيرهم معروفان في الأخبار. وأنت تعلم أن حملها على المعنى الأول بعيد إذ لو كان لجرم الفلكين نور كما للشمس لكان نورهما مرئيا كنور الشمس، اللهم إلا أن يقال: إن لهما نورا في الواقع ولكن رؤيته مشروطة بالتجرد والتنزه عن الهيئات البشرية والغواشي الناسوتية كما في نور الحجاب والستر، وعلى المعنى الثاني أبعد لانتفاء النسبة بين نور الشمس ونور علم الحق جل شأنه ولاستحالة تفضيل الشيء على نفسه ولعدم صحة المضمون في الكلام الآتي، اللهم إلا إن يراد بالكرسي علم النفوس المجردة، وبالعرش علم العقول المقدسة; ويمكن حملهما هنا على الجوهرين المجردين (3) النورانيين الموكلين بالفلك الثامن والتاسع مجازا من باب تسمية الشيء باسم متعلقه، وتفاوت نورهما بالذات أو باعتبار تفاوت تجلي نور الحق عليهما على النسبة المذكورة بل على الجوهرين الآخرين (4) وإن لم يكونا متعلقين بالفلكين، وتسميتهما بالكرسي

١ - راجع الدر المنثور للسيوطي ج ١ ص ٣٢٨.
٢ - قوله «هذان المعنيان مشهوران» يعني أن العرش والكرسي إما جسمانيان وهما الفلك الثامن والتاسع وإما روحانيان بمعنى العلم، واعترض على المعنى الأول: بأن الفلك الثامن والتاسع الجسمانيين ليس لهما نور محسوس فكيف يقال إن نور الشمس مستفاد منهما وعلى الثاني: بأن العلم وأن كان نورا غير محسوس لنا نظير نور الحجب ولكن لا يبعد أن يكون نور غير محسوس سببا لوجود نور محسوس فإن جميع موجودات العالم المحسوس معاليل ومسببات لعالم غير محسوس والنور على ما تحقق في زماننا تموج نظير تموج الماء بسقوط شيء فيه وقد يؤثر في الباصرة فيرى وقد لا يؤثر فيها مع تأثيره في شيء آخر وهو النور غير المرئي ويسميه أهل زماننا الأشعة المجهولة ويؤخذ منه التصوير من الأحشاء ويستعملها الأطباء وغرضنا بيان التوسعة في إطلاق النور والجواب عن الثاني أنا لا نسلم عدم المقايسة بين المحسوس والمعقول كيف وقد ورد في الشرع من ذلك أمثلة كثيرة بل وظيفة الشارع تقريب المعقول إلى الأذهان الساذجة كما ورد أن الإيمان بنى على أربع دعائم فشبه الإيمان بسقف مبني، وورد في بعض المعاصي أنه يسقط به الإنسان أبعد من السماء إلى الأرض. وقيل أن الذنب الفلاني أعظم من الجبال وغير ذلك مما لا يحصى فلا يبعد أن يقال:
إن إدراك نور الشمس لباصرة الإنسان أسهل وأخف سبعين مرة أو أكثر من إدراك تموجات حاصلة من أجسام آخر كالأشعة المجهولة أو من الأنوار المجردة الموجودة في عالم النفوس والعقول ويقال إن الأشعة المجهولة أقوى وأشد إذ تعبر من الأجسام غير الشفافة والأنوار المجردة أقوى وأشد أيضا إذ بها يرى البعيد والقريب والصغير جدا وما لا يحصى كثرة كعدد الرمال وأمواج البحار. (ش) ٣ - قوله «على الجوهرين المجردين» يعني النفس الفلكية المتعلقة بكل واحد من العرش والكرسي. (ش) ٤ - قوله «بل على الجوهرين الآخرين» يعني: العقل الكلي للفلك الثامن والتاسع وكلام الشارح مبني على أن حركات الكرات السماوية إرادية لا طبيعية وقال الأوائل إن السماوات أحياء لها نفس تحركها لا نظير نفوس الحيوانات الأرضية فإن الحيوان يشترط في حياته بنية خاصة من النبض والشريان والقلب والنفس والغذاء لبدل ما يتحلل ودماغ وأعصاب وجوارح للإدراك وليس تلك البنية للأفلاك أصلا، بل هي أجسام لطيفة متشابهة بغير آلات ولا يمكن رؤيتها بالبصر لغاية لطافتها فإنها أشف من الهواء ومن كل جسم لطيف يفرض، ولذلك لا يمنع تراكم هذه الأبعاد القاصية من رؤية الكواكب كما يمنع قطعة من البلور والماء الصافي بل الهواء من النظر إذا تراكم وبالجملة أن أمكن رؤية الأفلاك للإنسان رآه جسما لا يفرق بينه وبين الجماد لعدم ظهور آلات وجوارح فيها ولكنها متحركة بالحركة المستديرة والمجبول في طبع البشر أنه إذا رأى جسما يتحرك مستديرا أن ينسبه إلى فاعل إرادي ألا ترى أن الرجل إذا رأى رحى مستديرا يتحرك من غير ماء أو ريح أو سبب طبيعي نسبه إلى الجن أو الملك البتة، وبالجملة مذهبهم أن نفسا تحرك الفلك وغرضه من الحركة أن يتقرب إلى عقل فوقه كما أن حركات الإنسان أيضا للتقرب إلى عقل فوقه، وكما أن سعي الإنسان لتكميل عقله يدل على وجود عاقل مطلق يقصد التشبه به كذلك حركات الكرات السماوية إذا كانت إرادية.
قال الشيخ البهائي (قدس سره) في الحديقة الهلالية لم يرد في الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل الصلوات وأكمل التسليمات ما ينافي ذلك القول ولاقام دليل عقلي على بطلانه، وإذا جاز أن يكون لمثل البعوضة والنملة وما دونها حياة فأي مانع من أن يكون لتلك الأجرام الشريفة أيضا ذلك وقد ذهب جماعة إلى أن لجميع الأشياء نفوسا مجردة.
وقال السيد الداماد في خطاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) للهلال تنصيص على إثبات الحياة للسماويات جميعا وليس هنا موضع تفصيل الأقوال والمقصود بيان مراد الشارح ولعلنا نبحث عن ذلك في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش)
(١٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 ... » »»
الفهرست