مقامات السالك إلى الله تعالى، وبناؤه على أربع قواعد الشوق والاشفاق والزهد والترقب للموت فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات وطيب نفسه عن ترك جميع المشتهيات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استخف بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات، والآيات والروايات الواردة في مدحه كثيرة جدا ويكفى في معرفة علو قدره قوله تعالى (والله مع الصابرين) وقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) والجزع وهو حمل النفس على الشكاية وفعل ما يدل على عدم رضاها بصنع الله تعالى وهو نقيض الصبر، وجند الجهل ومنشؤه عمى البصيرة وتكدر السريرة فيتوهم عند نزول البلاء أن الجزع والاضطراب ينفعه فيتمسك به ويتمسك العقل حينئذ بالصبر ويقع بينهما قتال وجدال ومعركة هذا القتال قلب العبد وساحته الجوارح، والله يؤيد بنصره من يشاء وهو على كل شئ قدير.
(والصفح وضده الانتقام) صفح فلان عن فلان إذا أعرض عن ذنبه وعفى عن عقوبته وحقيقته ولاه صفحة وجهه وهو من فروع الحلم وشعب الاعتدال في القوة الغضبية وهو من صفات الأنبياء والأوصياء ومناقب الحكماء والعقلاء ومفاخر العلماء والكرماء إذ الحكيم يتغافل ويتدبر والعاقل يتسامح ويتفكر: والكريم يغفر إذا قدر وقد وقع الترغيب فيه في مواضع عديدة من القرآن والسنة قال الله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وقال النبي (صلى الله عليه وآله) (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا) (1) وفوائده غير محصورة منها أنه يوجب زيادة الأنصار والأعوان، ومنها أنه يوجب الذكر الجميل بين الإخوان والصيت الحسن في غابر الزمان كما قيل:
فعفوك في الأيام كالمسك فايح * وصفحك في الإسلام كالنجم زاهر والانتقام - وهو المعاقبة بالذنوب والمآثم والمؤاخذة بالزلل والجرائم - من فروع التهور وشعب الانحراف في القوة المذكورة ومن خصايل الجهلاء ورذائل السفهاء ومنشؤه عدم سكون النفس وثباتها، فإن تلك القوة تحركها حينئذ بسهولة إلى الشغب وإرادة الانتقام ويحدث بحركتهما حرارة في القلب فيثور دمه ويغلي وينتشر إلى الجوارح فتتحرك هذه الجوارح بعضها إلى الشتم وبعضها إلى الضرب وبعضها إلى غير ذلك من أنحاء المؤاخذة، ومضاره غير معدودة لأنه ينجر إلى استمرار العدوان وغلظتها واستيناف الخصومة وشدتها، وقد يؤدي إلى الظلم والعدوان ويبعث على الفجور والطغيان لتجاوزه عن القدر الجايز ولذلك كان الصفح أحسن من الانتقام هذا إذا علم أن الصفح لا