شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ٢٢٩
كان يأكل بقلة الأرض حتى كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه (1)، وإلى حال داود (عليه السلام) فإنه كان يعمل سفايف الخوص بيده ويقول لجلسائه أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها، وإلى حال عيسى ابن مريم (عليهم السلام) فإنه يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته ما تنبت الأرض للبهايم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه.
وإلى حال نبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله) وفيه اسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى وأحب الأعمال إلى الله تعالى التأسي به والاقتفاء لأثره فإنه قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا (2) وأهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم بطنا، وعرضت عليه الدنيا وخزاينها فأبى أن يقبلها، وقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بعض زوجاته ويكون فيه التصاوير فيقول: لها غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتخذ منها رياشا وتجملا (3) ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها عن النفس، وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، وقد كان فيه (صلى الله عليه وآله) ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصته وزويت عنها زخارفها مع عظيم زلفته، فانظر بنور عقلك أكرمه الله تعالى بذلك أم أهانه، فإن قلت: أهانه فقد كذبت وأتيت بالإفك العظيم، وإن قلت: أكرمه فالعلم أنه تعالى قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه. وإلى حال وصي نبيك أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه قال: رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.
قوله (عليه السلام): «فعند الصباح - إلى آخره -) مثل يضرب محتمل المشقة ليصل إلى الراحة وأصله أن

1 - شف الثوب أي رق، والصفاق الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر، وقيل جلد البطن كله.
2 - الطرف نظر العين اي لم يعطها نظرة على وجه العارية فكيف بان يجعلها مطمح نظره. والهضم محركة انضمام الجنبين وخمص البطن. وطوى عنه كشحا أي أعرض عنه وقاطعه. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع.
3 - الرياش اللباس الفاخر.
(٢٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 234 ... » »»
الفهرست