وكثرتها ووصفه بالظلمة لسترها أنوار العقول حايلا بينها وبين بصيرتها، أو المراد به المواد البدنية الهيولانية التي هي محض الاستعداد وعلة قابلية لتعلق النفس بها وتشخصها وعبر عنها بالبحر الظلماني لتراكم مياه الشرور والصفات المتغايرة المتضادة فيها ونسبتها إليها كنسبة البحر إلى الأمواج (فقال له: أدبر فأدبر) أمره بالهبوط من عالم الملكوت والنور إلى عالم الظلمات والشرور والتوجه إلى ما يلايمه من المشتهيات والنظر إلى ما فيه هواه من المستلذات فهبط لما في ذلك من مصلحة وهي ابتلاء العباد ونظام البلاد وعمارة الأرض إذ لولا ذلك لكان الناس بمنزلة الملائكة عارين عن حلية التناكح والتناسل والزراعة وتعمير الأرض وبطل الغرض المطلوب من هذا النوع من الخلق وبطل خلافة الأرض، ولزم من ذلك بطلان الثواب والعقاب وعدم انكشاف صفات الباري وانجلاء حقايقها وآثارها مثل العدالة والانتقام والجبارية والقهارية والعفو والغفران وغيرها (ثم قال له: أقبل فلم يقبل) أمره بعد الادبار بالاقبال إليه تعالى والرجوع إلى ما لديه من المقامات العلية والكرامات الرفيعة التي لا يتيسر الوصول إليها إلا بالانتقال من طور أخس إلى طور أشرف ومن حالة أدنى إلى حالة أعلى ومن نشأة فانية إلى نشأة باقية وهكذا من حال إلى حال ومن كمال إلى كمال حتى يبلغ إلى غاية مشاهدة جلال الله ونهاية ملاحظة أنوار الله ويرتع في جنة عالية قطوفها دانية فأبى السلوك في سبيل الرشاد والتقيد بربقة الانقياد والمسك بلوازم الوعظ والنصيحة والانقلاع عن الافعال القبيحة كل ذلك لشدة احتجابه بحجاب الظلمات وانغماسه في بحار ذمائم الصفات لتوهمه أن تلك الذمائم الخاسرة والصفات الظاهرة والمشتهيات الحاضرة كمال له فاغتر بها أو افتخر وأخذها بضاعة له واستكبر (فقال له: استكبرت فلعنه) الاستفهام للتوبخ والتعيير واللعن الطرد والإبعاد من الخير يعني تركت أمري بما يصلح في النشأتين استكبارا وجعلت الامتثال به مذلة وافتقارا، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير لجهلك بما يوجب قرارة العين والسرور، واحتباسك بقيد الجهالة والشرور فلا جرم أنت بعيد من الرحمة والسلامة، مطرود عن مقام العزة والكرامة فإن قلت: من لعنه الله تعالى فهو مقيد بقيد العصيان، مقيم مقام الخذلان، محروم عن الرحمة والجنان أبدا فما وجه قوله:
فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قلت: اللعنة مشروطة بالاستكبار، فإن دام دامت وإن زال بالتوبة والإنابة زالت لأن الله تعالى يحب المفتن التواب.
(ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا) في المغرب الجند جمع معد للحرب وجمعه أجناد وجنود.
وفي الصحاح الجند الأعوان والأنصار وفي عد كل واحد من الأمور المذكور جندا باعتبار تكثر أفراده وشعبه، ولما كان الطريق إلى الله مخوفا وفي كل قدم منه شعبة وعلى كل شعبة منه عدو مقاتل وخصم مجالد يقود سالكه إلى مهاوي الضلالة ومساوي الجهالة احتاج سلطان العقل في قطع